دبي مثال له أعماق

اطلعت يوم الأحد 26/4/2009م على مقال الدكتور الصديق سليمان السكران في "الاقتصادية" ونفاحه الهادئ عن النهضة العمرانية غير المسبوقة في دبي وندائه الضمني للاستفادة منها كمثال يحتذى في تفعيل التنمية الاقتصادية، والذي من خلاله قلل من تحميل مسؤولية الأزمة التي تمر بها دبي منظري تطوير دبي على ذلك النحو . الدكتور سليمان بين من خلال طرحه أن الأزمة في دبي كانت أكبر، لأن دبي كانت أكثر حراكاً من غيرها وربما أنها لم تخسر إلا بعضاً يسيراً مما اكتسبت.
الدكتور سليمان رجل اقتصادي ويزن استنتاجاته بميزان المكاسب والخسائر المالية، أما أنا فرجل تنمية موارد بشرية أنظر لتفعيل الدور الإنساني في تحقيق التنمية المتحصلة من العمل الإنتاجي، لذا كنت أبحث في تجربة دبي غير المسبوقة عن ذلك الدور, وأتساءل: هل اكتسبت دبي كمجتمع من ذلك الحراك التنموي أي كفاءة تدخرها للاستمرار في تغذية ذلك النمو العمراني بنمو حضاري يستطيع الحفاظ على القدرة الجاذبة لاهتمام العالم بدبي كمحور للإمتاع والإبهار؟ وهل سيكون أهل دبي وباقي أهل الإمارات معهم في المستقبل قادرين على تسيير تلك الحضارة المتعددة الثقافات ودمجها في قالب مقبول القيم لهم؟ أم أنهم سيذوبون فيها ليصبحوا المكون الأدنى مساهمة في الصورة الكلية. هذه التساؤلات كانت تلح في كل مرة أزور فيها دبي، وخصوصا عندما أفتقد حضور المواطن في كثير من المرافق التي أزورها.
في زيارتي الأخيرة لدبي سنحت لي الفرصة بلقاء اللواء خميس مطر المزينة، نائب القائد العام لشرطة دبي، ومن حديث طويل حول استطلاعات مستقبل دبي الاجتماعي، تبين لي أن هم المستقبل حاضر في أذهان المسؤولين في تلك الإمارة وأن الخيار لديهم كان إما البقاء رهن مخاوف انفلات زمام السيطرة وبناء عليها تحجيم الطموحات والقناعة بما يتحقق من نمو طبيعي, أو كسر حواجز الخوف والانطلاق نحو واقع جديد مع الجد والمثابرة على رفع الكفاءة البشرية القادرة على صيانة المكتسبات ووضع المواطن في محور المحرك للتنمية الحضارية التي تستهدفها الإمارة. لذا لم يكن من المستغرب في تلك الإمارة النابضة، أن يقوم جهاز الشرطة بمهمة اجتماعية تربوية من خلالها يتم تعريض آلاف الطلاب - هم طلاب مراحل التعليم العام في المدارس الحكومية في دبي – من خلال عدد من البرامج لعملية تأهيل اجتماعي ترمي إلى بناء شخصية قوية متماسكة القيم محصنة من الذوبان في خضم الثقافات المختلفة وواعية لمهمتها في حفظ كيانها الوطني الذي يجب أن ينسجم مع تاريخها العريق وتطلعها الحثيث.
يروي اللواء خميس أن الفريق ضاحي خلفان تميم، القائد العام لشرطة دبي، عندما زاره مدير مدرسة الإمام الشافعي واشتكى له من المشاغبات التي يثيرها الطلاب وتخل بالعملية التعليمية وكان حينها الفريق ضاحي رئيس مجلس الآباء في منطقة دبي التعليمية، بادر إلى تكوين فريق عمل من شرطة دبي لوضع برنامج يهدف لتهيئة الطلاب في تلك المدرسة، تهيئة سلوكية تتميز بالانضباط والحصانة من الانجراف أمام مغريات المتع المحرمة والجنح، وما لبث هذا البرنامج أن تحول إلى مشروع شمل جميع المدارس الحكومية في دبي وخلال ست سنوات توسع في شموليته ليتمثل في عدد من البرامج ويصبح أحد أهم أدوار شرطة دبي في الحماية الاجتماعية، وتتكون له دائرة متخصصة يعمل فيها عدد من الخبراء التربويين والسلوكيين. ويتوج ذلك الاهتمام والجهد بحصول قيادة شرطة دبي على جائزة (المؤسسات الداعمة للتعليم).
إن للمظاهر الحضارية العمرانية في دبي عمقا من الوعي الرسمي بالمؤثرات الاجتماعية لتلك المظاهر في البناء الاجتماعي والنفسي للمواطنين وتحرز من أن يؤدي ذلك الحراك الاجتماعي المتعدد الثقافات إلى ذوبان المكون الوطني في صورة تسلبه خصوصيته الوطنية، هذا العمق في الوعي مبني على اعتقاد أن الأكثرية العددية لا تجعل المواطن أكثر حصانة ولا أكثر حظا في نيل الحقوق والمكتسبات، وإنما الجدارة النوعية هي ما يكفل للمواطن تفرده بالسيطرة على مجريات الأمور في الإمارة وتولي القيادة، لذا يحرص المسؤولون في إمارة دبي على إكساب المواطن القدرة على التعلم والتطور في جميع ميادين الحياة ورعاية ذلك بصورة مباشرة.
في اليوم ذاته الذي التقيت فيه اللواء خميس التقيت بالعميد محمد سعيد المري، نائب مدير الإدارة العامة لخدمة المجتمع في شرطة دبي، والمقدم خبير إبراهيم محمد الدبل، المنسق العام لبرامج التدريب، وكان الرجلان مفعمين بالحماس لتمكين شرطة دبي من دورها الاجتماعي والتربوي، ولو لم أكن أعلم أن الأول بدأ حياته العملية كمعلم والثاني صيدلي، لذهلت من عمق اطلاعهم على الأساليب التربوية والمحاذير الاجتماعية التي يتعاملون معها, ومع ذلك أذهلني عمق العلاقة التي يربطها جهاز شرطة دبي مع الطلاب، حيث يتعرض الطالب منذ دخوله المدرسة إلى تخرجه من المدرسة الثانوية لـ 65 تفاعلا مباشرا مع عنصر من عناصر الحماية الاجتماعية في شرطة دبي.
لقد اختارت دبي أن تغتنم فرصة الزمن وتقفز نحو المستقبل بهمة الرجال المخلصين ووعيهم, وقبل كل ذلك حذرهم من الانزلاق في محذور الذوبان الثقافي، وهذا لا شك يسعدنا وتنشرح به صدورنا فدبي جزء من بلادنا الكبرى وأهلها بعض من أهلنا. ولعل من نافلة القول في هذا المقام اقتباس روح خاتمة مقال الدكتور سليمان السكران، حيث يجب الاستفادة من التجربة التي مرت وتمر بها دبي بما فيها من إنجازات وإخفاقات، وهنا أحث حكومة دبي على توفير الوسائل الكفيلة بنقل تلك التجربة للبلدان العربية الأخرى كمساهمة في تحقيق تنمية عربية شاملة ولها بذلك شرف وفخر.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي