نحو العالم الأول.. رؤية وطنية

"مللنا البقاء في العالم الثالث" مقولة مشهورة للأمير خالد الفيصل أمير منطقة مكة تنم عن بعد فلسفي وفكر مستنير ونظرة واقعية وطموح نحو الأفضل. إنها رسالة قوية ومعبرة بأننا كمجتمع يجب ألا نستكين ونركن للوضع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي، وإنما يلزم أن نتطلع ونسعى لتحقيق مركز متقدم بين الأمم. من هنا جاء الاختيار الموفق لشعار مجلس مكة "نحو العالم الأول" كرؤية تقود لتوجيه الطاقات والموارد نحو الأفضلية. أن أول وأهم خطوات التغيير هو إدراكه ومن ثم الاعتراف به والاستعداد لتحمل تبعات هذا التغيير الاجتماعي والاقتصادي والسياسي. هناك الكثير الذي يجب علينا عمله وجميعها تنطوي تحت إطار إعادة تثقيف المجتمع عبر مبادرات جريئة ومدروسة ومن خلال مشاركة شعبية وحوارات عامة للتوصل إلى صيغ توافقية بين جميع الأطراف المتداخلين. إنه "الحلم" على حد تعبير الأمير خالد الفيصل الذي يتطلب منا جميعاً السعي لتحقيقه بعزيمة وإصرار وإرادة وتحديد الأدوار والمسؤوليات وتخصيص الموارد والتزام تام بالقرارات الاستراتيجية والخطط. هذا الحلم ليس بالأمنيات والأحلام ولكن بالجد والعمل الدؤوب تتطاوله الأيدي وتشرئب له الأعناق ويسيطر على تفكيرنا ونتسابق لتحقيقه ويكون هاجسنا الأول في كل ما نقوم به. إنها النظرة المشتركة وثقافة الإنجاز وتحقيق الأفضل. البحث عن الأفضل لا يتعارض مع ثوابتنا وهويتنا الوطنية كما يظن البعض، بل على العكس تماما يعززها ويثبت للآخرين أنها تقود نحو التحضر وتحقيق مراكز متقدمة متى ما كان هناك توظيف واع للقيم الاجتماعية الإيجابية دون العادات السلبية، وتوافق بين النظرية والتطبيق، بين ما نقوله وندعيه وما نفعله ونمارسه. لقد حققت دول مثل اليابان وكوريا والصين والهند وغيرها تقدما اقتصاديا بتوظيف قيمها التقليدية وجعلها قوة دافعة للتطوير والتنمية.
عملية التغيير الاجتماعي هي في جوهرها خلق أوضاع جديدة تتطلب التعرف على القوى الدافعة والقوى المثبطة للتغيير ومن ثم إيجاد توازن اجتماعي جديد من خلال تعزيز القوى الدافعة وإضعاف القوى المثبطة. إن الانتقال من مجتمع تقليدي إلى مجتمع أكثر تقدما يستدعي خططا واستراتيجيات تحدث نقلة نوعية في ثقافة المجتمع تجاه قيم العمل والوقت والإنتاجية والإنجاز وهيكل اقتصادي يعتمد على الصناعات التحويلية وتوفير وظائف بمداخيل عالية وتنمية قطاعات التصدير ورفع مستوى التعليم والصحة وتطبيقات التقنية. إن تحقيق مستويات أعلى من النضج الاقتصادي والسياسي والاجتماعي يأتي من خلال إيجاد مناخ تنافسي يتبارى فيه أفراد ومؤسسات المجتمع في تحقيق الأفضل. التنافس هنا ليس من منظور الندرة وأن نجاح أحدنا يكون على حساب خسارة الآخرين، وإنما السعي نحو خلق أوضاع رابحة لجميع الأطراف بنظرة مشتركة تكاملية ومنظومة اجتماعية بتناسق وانسجام. إن ما يميز الدول المتقدمة ليس أفرادها ولكن نظمها الاجتماعية التي تؤدي إلى التكامل والتنسيق بين إسهامات الأفراد والجماعات في المجتمع وتوحيد الجهود لتحقيق الأهداف المشتركة. التنافسية تعني تضافر الجهود لتقديم ما لا تستطيعه المجتمعات الأخرى جودة وتكلفة ورضا المستهلكين!! في السعودية على سبيل المثال قد نسعى لأن نكون رقم واحد والأفضل على الإطلاق في إنتاج البتروكيماويات أو بتحلية المياه أو التعليم الديني أو بعض التخصصات الطبية. هذا المناخ العام للتنافسية يتطلب التوافق بين القرارات الخاصة للأفراد كمستثمرين وعاملين من جهة والقرارات العامة الحكومية من جهة أخرى. لا نستطيع أن نحقق أي تقدم دون أن يكون هناك انسجام بين الاثنين فالقطاع العام والقطاع الخاص جناحا التنمية الاقتصادية الوطنية.
التنافس في ثقافتنا يعني عمل القليل وجني الكثير! وهي ثقافة تمارس على جميع المستويات الاجتماعية. وهو أمر جد خطير بل يقوض جميع الجهود نحو ارتقاء سلم التنافسية وتحقيق مركز متقدم بين أمم العالم. البعض يعتقد أنه من أجل أن يكون له أطول مبنى يقوم بهدم المباني الأخرى من حوله! والحقيقة أن هذا النوع من التنافس ينبع من منظور ضيق وأنانية مقيتة تكون خسارا ووبالا على الجميع في المدى الطويل. إن السعي نحو الأفضل وتحقيق الإنجاز يتطلب عمل الكثير وجني الأكثر. إنها تكبير الكعكة الاقتصادية التي تعود بالنفع على الجميع وتعظم حصصهم من الاقتصاد الوطني عبر نظرة مشتركة وجهود متكاملة. ولتحقيق النظرة المشتركة والتأكد من إسهام أفراد المجتمع في التنمية الاقتصادية والاجتماعية ينبغي التحول إلى اللامركزية ومنح المحليات صلاحيات صنع القرار المحلي وصياغة التنمية المحلية عبر هيئات نيابية منتخبة، تكون مسئولة عن رعاية مصالح المجتمع المحلي وتمنح السكان فرصة المداخلة بعملية صنع القرارات المحلية. والمهم تحقيق التوافق بين تخصيص الموارد والخدمات المطلوبة، ليس من أجل الاستهلاك المعيشي اليومي وإنما لتحقيق أهداف التنمية المحلية. إن هذه الهيئات المحلية تجعل سكان المدن يتملكون قضاياهم ومشكلاتهم ومن ثم يسهمون بشكل فاعل في التنمية المحلية. إن من شأن ذلك جعل المواطنين أكثر نضجا ووعيا وإدراكا لمسؤولياتهم الاجتماعية وأكثر اهتماما بالشأن العام. التخفيف من المركزية يسهم في التحول من التنظيم البيروقراطي إلى مجتمع معرفي واقتصاد رقمي وهو أمر لم يعد اختياريا بل لازما في ظل المتغيرات والتحديات، التي من أهمها العولمة وتقنية الاتصالات التي ألغت البعد المكاني والميزة التفضيلية للموقع. إن هذا التحول يعني الاهتمام بالإنتاجية وليس كما هو واقع حال التنظيمات البيروقراطية استغراق بالإجراءات المطولة وهرمية السلطة.
إن من أهم متطلبات إحداث تغيير نوعي في المجتمع التأسيس لنظام تعليم يشجع الابتكار والإبداع وقيم العمل. لم يعد أسلوب التلقين وحشو ذهن الطالب بالمعلومات دون تطوير قدراته الذهنية والنفسية وفهم ما يدور حوله والربط بين المعلومة وتطبيقاتها في الحياة أمرا مقبولا. الجامعات هي الأخرى يجب أن تتحول إلى مراكز بحثية تطبيقية تسهم في مجال الصناعة وتحقيق قيمة اقتصادية مضافة. جميع ذلك يستدعي بيئة تنافسية تستند لقيم الشفافية والبحث عن الأفضل وتهيئ الفرصة للإبداع والابتكار. إن البحث والتطوير يتطلب موارد كبيرة وبالتالي لا بد من تطوير الهيكل الاقتصادي من عدة جوانب: الأول، التقليل من الاعتماد على المشاريع الاستهلاكية الصغيرة والتوجه نحو الصناعات التحويلية ذات الإنتاج الوفير لتقليل متوسط التكلفة وبما يبرر التكاليف الباهظة للبحوث والدراسات التطويرية. الأمر الثاني، التحول من إنشاء المصانع إلى إنشاء الصناعات، حيث تكون المصانع روافد لصناعة بعينها بدلا من حال التشرذم لمصانع استهلاكية لا تسهم بالقيمة المضافة في الاقتصاد الوطني ومنافسة بين الأفراد لا ترتقي بالصناعة. الجانب الثالث، خلق فرص عمل جديدة من خلال هيكل اقتصادي يعتمد على التقنية والصناعات التحويلية. العبرة هنا ليست بزيادة عدد الوظائف وحسب، ولكن وظائف تمنح دخولا عالية، ولا سبيل إلى ذلك إلا برفع إنتاجية الأفراد، وهذا بالضبط ما تفعله التقنية والصناعات التحويلية.
وخلاصة القول نحتاج إلى استراتيجية وطنية تكون إطارا عاما تنسق الجهود وتوجهها وقد يكون أولى الخطوات تبني رؤية الأمير خالد الفيصل "نحو العالم الأول".. كرؤية وطنية نسترشد بها وليكون بداية جديدة لدور جديد للحكومة في المجتمع تهيئ المناخ العام بانتهاج التوجيه وليس التجديف حتى نحقق التقدم المطلوب.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي