ماذا عن النصف الآخر من الطريق؟

عبدالله بن عايض القرني*

تحشد جمع من البشر (رجالا ونساءًا) ذات يوم, وأخذوا على أنفسهم عهدًا أن يرحلوا فلا يقفوا إلا في (جزيرة النعيم), وأقسموا بلسان واحد أن لا يثني عزيمتهم إليها ثانٍ, وأن يسخروا لذلك ما أوتوا من قوة وعزم. سألوا حكيما كيف لنا ذلك؟ فقال أن تجتمعون على بعضكم, ثم تسيرون معـًا بناءًا على مخطوطة قد كتب عليها الوصف إلى ذلك المكان, وأوصاهم أن يتمسكوا بهذه المخطوطة ففيها السبيل إلى الوصول, وأن يتزودوا بالعتاد والعدة لخوض الطريق.
سار الحشد على ذلك الطريق، بناءًا على الوصف الذي كتبه لهم ذلك الحكيم في تلك المخطوطة, يقودهم شيخـًا كان هو الوحيد الذي يستطيع قراءة ما بتلك المخطوطة, فقد كتبها الحكيم لهم بلغة مختلفة, وبشفرات لا يستطيع فكها سوى ذلك الشيخ, وما إن وصلوا إلى منتصف الطريق حتى توفي ذلك الشيخ!
ضج الحشد وتعالت الأصوات, وأختلف الناس في من يمسك القيادة بعد ذلك الشيخ, بحثوا عن من يستطيع قراءة تلك المخطوطة وفك شفراتها, فلم يجدوا من يجدي, وما لبثوا أن تنازعوا وتفرقوا أحزابا, فكل حزب يريد القيادة, ويدعي أنه الأجدر بها! وقرروا المكوث في ذلك المكان إلى أن يصلوا إلى حل لمشكلتهم.
وبعد جدال عقيم شارك فيه من يفقه ومن لا يفقه, أشار عليهم أحدهم أن يوكل كل حزب (رجل) واحد فقط, فيجتمع أولئك المرشحين ليتدارسوا أمرهم علهم يصلون إلى حل لمشكلتهم. وبعد أن فرغ المرشحين من إجتماعهم أصدروا القرار التالي:
"يجب على الجميع (صغارا وكبارا, رجالا ونساءا) دراسة وتحليل تلك المخطوطة"
وإستنادًا إلى (نصف) الطريق الذي كانوا قد عبروه سابقا, وكيف كان ذلك الشيخ يفك شفرات تلك المخطوطة بينما هم يعبروه, أخذوا يحاولون دراستها وتحليلها علهم يهتدون إلى النصف الآخر من الطريق. لكن المشكلة أن النصف الآخر من الطريق ليس كالنصف الأول منه, فتضاريسه مختلفة, وكذلك شفرات تلك المخطوطة فيه مختلفة!
نسوا كل ما سوى تلك المخطوطة, فأعطوها كل اهتمامهم, فهم دائما يقولون أن الحكيم أوصاهم بالتمسك بها, لكنهم نسوا ما وصاهم به أيضا حكيمهم في التزود بالعتاد والعدة لخوض الطريق. واكتفوا بما كانوا قد ملكوه من قبل من مأكل ومشرب وعتاد قديم. وتوالت الأجيال بعد الأجيال وهم على ذلك الحال, يدرسون تلك المخطوطة, يفقهون بعضها ولا يفقهون بعضها, ومع مرور السنين, تحزب الحشد إلى أحزاب ثلاثة: فحزب يدعوا إلى العودة إلى المكان الذي انطلق منه آباؤهم وأجدادهم, وإلى العيش على نفس الطريقة التي كانوا يعيشون عليها. وحزب يدعوا إلى التركيز على العتاد والعدة والاستفادة من تجارب غيرهم من الناس, ثم المسير معهم إلى حيث يسيرون, أما الحزب الثالث فهو يخاف من العودة إلى الوراء, ويخاف من المضي مع الناس إلى الأمام، راض ٍ بما هو عليه, غير مكترث لا بعتاد ولا بعدة, يحارب كل فكرة جديدة, ودائما يتمسك بتلك المخطوطة, غير فاقه ولا فاهم لجل ما فيها!
قد يقول القائل, ما ترمي إليه من خلال هذه القصة؟ وحقيقة أراها تصف حال المسلمين اليوم, فنحن في منتصف الطريق, عبرنا النصف الأول, ونقف حائرين أمام الكثير من تداعيات العصر! فالمعطيات اليوم –ومستقبلا- مختلفة, والآراء تجاه ذلك أيضا مختلفه, ولا أقول بأن العيب في الدستور الإسلامي, وإنما فينا نحن المسلمون.
اليوم أصبح بإمكاننا تمييز ثلاثة تيارات فكرية, تماما كما هي الحال في الأحزاب الثلاثة التي أشرت إليها في القصة, فهناك من يدعوا إلى العودة إلى كان عليه الصحابة والسلف (في الحين الذي يراه البعض مستحيلا), وهناك من يدعوا إلى اللحاق بالعالم حتى لو لم يتضح الحكم الشرعي جليـًا (في الحين الذي يراه البعض حرمة), وهناك محاربوا التغيير ومعارضوا كل جديد، فقط لمجرد أنه جديد, دون فقه أو فهم من غالبيتهم للحكم الشرعي تجاه ذلك!

*عضو هيئة التدريب بمعهد الإدارة العامة

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي