اقتصاديات المدن أولا.. لا المدن الاقتصادية

المدن جذور التنمية الاقتصادية الوطنية, هذه حقيقة واضحة نغفل عنها في ظل التوجه الكبير نحو التخطيط المركزي باتجاه واحد من أعلى إلى أسفل. ولأن كان هذا النوع من التخطيط ضروريا في مرحلة من مراحل بناء الدولة الحديثة وتحقيق التنمية المتوازنة وتوفير البنى التحتية في المدن والمناطق إلا أنه لم يعد مستساغا الاستمرار على النهج ذاته في ظل النضج الاقتصادي والسياسي, الذي تشهده المجتمعات المحلية بتوافر الكفاءات وتوسع المدن وازدياد عدد سكانها وارتفاع المستوى الثقافي والانفتاح الاقتصادي والتواصل العالمي. كل ذلك يتطلب مدنا قادرة على المنافسة ليس داخل الدولة وإنما مع مدن عالمية ما يجعل المنافسة أشد ضراوة وتمثل تحديا كبيرا. لقد ولى عصر حماية الدولة للصناعات الوطنية وأصبح على المدن الاعتماد على قدراتها الذاتية وأخذ زمام المبادرة في إنتاج سلع وخدمات تنافسية متميزة تكون هي الوحيدة القادرة على إتقانها وتقديمها بتكاليف أقل. لقد تحول دور المدن من مستقرات سكنية للعيش والعمل إلى مكان للحراك الاقتصادي والاجتماعي والسياسي يسهم في التنمية المحلية ورافد للاقتصاد الوطني. وهذا يتطلب نظما إدارية تمنح المدن الفرصة لصناعة قراراتها وخططها واستراتيجياتها عبر هيئات محلية تتمتع بالاستقلال الإداري والمالي. إن من المهم أن تتملك المجتمعات المحلية قضاياها وتتحمل مسؤولية تحقيق مصالح سكانها وتتصدى لمشكلاتها وتواجه التحديات برؤية مشتركة ودافعية نحو تحقيق أوضاع أفضل. إنه الأسلوب الأمثل ويكاد يكون الوحيد للارتقاء بالاقتصاد الوطني ومعالجة كثير من المشاكل الوطنية التي هي في أساسها محلية فمشاكل الفقر الحضري والإرهاب والسطو المسلح والمخدرات والازدحام المروري والنقل العام والتلوث وغيرها من المشاكل خرجت من رحم الأحياء السكنية ولو قدر أن يكون هناك هيئات محلية مسؤولة عن إدارة جميع قطاعات المدينة إدارة تشمل جميع المرافق الحكومية لاستطاعت أن تقضي عليها في مهدها. إن كثيرا من هذه المشاكل في أساسها مشاكل اقتصادية وإدارية مردها الإخفاق في توجيه الموارد وتخصيصها حسب أولويات المجتمعات المحلية. ولذا ومع الإنفاق السخي للدولة إلا أنه يبقى هناك فجوة كبيرة بين نوعية وكمية الخدمات واحتياجات سكان المدن بل إن المركزية الشديدة تسلب سكان المدن الدافعية والحماس وتجعلهم سلبيين لا يهتمون بالقضايا العامة المحلية. وفي ظل سيطرة البيروقراطيات العامة على عملية صنع القرار المحلي دون مجالس نيابية محلية توجهها وتكون مرجعيتها في وضع السياسات المحلية يكون اهتمام الأجهزة الحكومية المحلية منصبا نحو رضا مسؤوليهم في المركز وليس بالضرورة رضا السكان. إن وضع الإدارة المحلية يكتنفه الغموض والضبابية فهناك تعدد للمرجعيات وتداخل في الصلاحيات والأدوار وتشرذم إداري, كل قطاع يعزف منفردا دون تناغم بل إن في بعض الحالات يكون هناك تضاد في السياسات العامة. إن الوضع الإداري المحلي أكثر تشابكا وتعقيدا من المستوى الوطني وبالتالي يتطلب هيئة إدارية محلية تحقق التناسق والانسجام والتكامل بين القطاعات المختلفة لمعالجة المشاكل المحلية من جميع الزوايا. وهنا لا بد من الإشادة برؤية الأمير سلمان بن عبد العزيز أمير منطقة الرياض, الذي أدرك بخبرته الإدارية وحسه السياسي أنه لا فرصة للنجاح في التطوير والتنمية المحلية إلا من خلال هيئة ينضوي تحت سقفها جميع الأجهزة الحكومية وتتمتع بصلاحيات إدارية ومالية فعمد إلى إنشاء الهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض, التي تعد بحق أنموذجا إداريا بفكر إداري سعودي. هكذا أصبحت العاصمة الرياض مدينة عصرية جذابة في زمن قياسي أذهل كثيرين. هذه التجربة الفريدة والثرية يلزم الاسترشاد بها في تطوير نظام الإدارة المحلية والاستفادة من الدرس الأهم وهو أن المشاكل والتحديات المحلية تتطلبان حلولا ومعالجات محلية وليس مركزية كما أن توفير الخدمات العامة ليس من أجل الاستهلاك المعيشي اليومي ولكن أيضا من أجل التنمية المحلية وتكبير الكعكة الاقتصادية المحلية. 
إن التمييز بين المستويات الإدارية أمر ضروري ومهم فأسلوب واهتمامات وأدوار ومسؤوليات الإدارة المحلية تختلف عن تلك المتعلقة بالأجهزة المركزية فالمسؤولية الأولى لإدارة المجتمعات المحلية هي تطوير وتنمية الاقتصاد المحلي كمنظومة متكاملة يتم فيها توجيه جهود الأجهزة المحلية ومؤسسات القطاع الخاص ومؤسسات المجتمع المدني وعموم الناس إلى تحقيق الرؤية المشتركة والمصلحة المحلية وبناء اقتصاد محلي يجتذب الاستثمارات ويوفر فرصا وظيفية ذات دخول مرتفعة. إن لكل مجتمع محلي خصائصه وميزاته وقدراته الاقتصادية والثقافية وقاعدة اقتصادية تكون أساس ومفتاح النمو الاقتصادي ولذا كان استكشاف الإمكانات وتوظيفها في التنمية المحلية جوهر العمل الحكومي المحلي. من هنا كان لا بد لإدارات المدن من التركيز على قطاع التصدير الذي يجلب مداخيل من خارج الاقتصاد المحلي وليس فقط قطاع الخدمات للاستهلاك داخل المدينة. إن الاستقلال الإداري والمالي لإدارة المدن من شأنه زيادة التنافس بين المجتمعات المحلية ما يؤدي إلى تحسين الخدمات العامة في محاولة لجذب الاستثمارات والصناعات إليها دون غيرها. الوضع الإداري المحلي الراهن فيه تعطيل للموارد والقدرات المحلية لافتقاد قنوات صنع القرار المحلي التي تربط بين المدخلات والمخرجات، بين الإنفاق والعائد منه، بين الاجتهاد والنتيجة وهذه معضلة كبيرة تبطئ من النمو الاقتصادي على المستويين المحلي والوطني.
وفي غمرة استباق الزمن في تنمية وتطوير الاقتصاد الوطني يتم التركيز على المشاريع الوطنية بعضها بعناوين براقة جذابة ولكن دون النظر للمتطلبات الإدارية والاقتصادية. هذه النظرة الفوقية للتنمية دون إتاحة الفرصة للإدارات الإقليمية (المناطق) والمحليات للمشاركة في صياغة تلك المشاريع ذات الطبيعة المحلية تقلل من فرص نجاحها, إذ إن سياسات التنمية المتوازنة تستوجب التعرف على آراء وتفضيلات وإمكانات وقدرات المناطق والمحافظات لاختيار ما يناسبها من مشاريع وينسجم مع قدراتها بدلا من فرض المشاريع باتجاه واحد من أعلى إلى أسفل. إن التخطيط من أعلى إلى أسفل قد يؤدي إلى عدم استفادة أبناء المنطقة استفادة كاملة بل الطامة الكبرى عندما يتم الاستعانة بالعمالة الأجنبية الرخيصة لتتسرب الأموال إلى الخارج على غير رجعة! إن الواقع يشير إلى أننا في حاجة للاهتمام باقتصاديات المدن والمناطق أولا وقبل  المدن الاقتصادية وألا نكون قد وضعنا العربة أمام الحصان. المشاريع التنموية لا تقتصر على النواحي الفنية والاقتصادية وإنما تتطلب هياكل إدارية وسياسية محلية تحولها من رؤى واستراتيجيات على الورق إلى واقع ملموس. هناك حاجة ماسة لتحول نوعي وإعادة هيكلة إدارية وسياسية وليس تطويرا فنيا تقنيا تكون فيه المدن أكثر قدرة للاستجابة لمتطلبات السكان واحتواء المتغيرات والمستجدات الداخلية والخارجية وأكثر قدرة على المنافسة العالمية. لقد حان الوقت لأن ندرك أن التنمية الاقتصادية والاجتماعية تبدأ من المدن إلى المستويات الإدارية الأعلى وليس العكس، وإذا كان كذلك يلزم أن يكون هناك نظام للإدارة المحلية يجمع الوحدات الإدارية في المدن تحت مظلة هيئات محلية تتمتع بالصلاحيات الإدارية والمالية لتكون قادرة على تحقيق مصالح سكان المدن في الحاضر والمستقبل.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي