عندما يتغير الطقس لابد من تغيير الملابس (2)
يعتقد البعض أن الحضارات لا تنهار بسبب أزمة مالية عابرة، وهذا صحيح. بيد أن ما حدث في الولايات المتحدة أكبر من كونه أزمة مالية عابرة، إنها أزمة عميقة متجذرة في صلب النظام، إنها أزمة نظام وأزمة أخلاق. إن غياب أو ضعف الضوابط الأخلاقية في أي نظام، يعني وجود أداة مدمرة له من داخله يمكن أن تنفجر في أية لحظة مهما علا شأنه التنظيمي. وقد كان لغياب الضوابط الأخلاقية عن النظام المالي الأمريكي (بنوك الاستثمار تحديدا) دور أساسي في فشله ومن ثم في تعطل عجلة الحياة الاقتصادية. ولن تبدأ عجلة الاقتصاد في أمريكا (ومن ثم في العالم) بالعمل قبل أن يعود النظام المالي العالمي للعمل، فالتمويل هو عصب الحياة الاقتصادية. ولن يعود النظام المالي للعمل حتى تعود ثقة العالم به، ولن تعود هذه الثقة قبل إدخال إصلاحات فنية وضوابط أخلاقية في صلب النظام الاقتصادي الرأسمالي تضمن عدم قيام أشرار المال والمصارف بتكرار جرائمهم في حق العاملين والمنتجين الحقيقيين.
لم يعد هناك اليوم شك في فشل النظام المالي بنسخته الأمريكية ومن ثم حاجة العالم لترتيبات جديدة. وكنت حريصا على دعم مقالاتي بآراء عدد من الشخصيات العالمية المرموقة التي تؤكد الحاجة إلى هذا التغيير. ومنها رأي البروفيسور جوزيف ستيجليتز أستاذ الاقتصاد في جامعة كولومبيا وأحد الحائزين على جائزة نوبل في الاقتصاد، الذي عدد خمسة أخطاء ارتكبتها الإدارات الأمريكية المتعاقبة خلال العقود الثلاث الماضية يجمعها كلها عنوان واحد وهو فشل النظام ذاته في تحقيق الاستقرار المنشود. وكان آخر من قرأت لهم وزير الخارجية الأمريكي السابق هنري كيسينجر الذي كتب الأسبوع الماضي مقالا في صحيفة "الاندبندنت" تضمن كلمات قاطعة جاء فيه: "على العالم أن يصيغ نظاماً جديداً أو أن يدخل في فوضى"، وهذه كلمات قاطعة تعني أن أمام العالم خيارين لا ثالث لهما.
إن إعادة الحياة للاقتصاد الأمريكي ومن ثم إلى الاقتصاد العالمي، يقتضي ما هو أكبر من إجراءات في السياستين النقدية والمالية. فمع أن هذه الإجراءات مهمة في الظروف العادية، إلا أن التوقف عندها دون إصلاح أسس الخلل في النظام لن يمنع تكرار المأساة. ومع ذلك فبعض هذه الإجراءات مشكوك في فاعليتها في ظل ما يجري. فالسياسة النقدية تكاد تفقد – إن لم تكن قد فقدت بالفعل - فاعليتها في ظل ظروف الكساد الحالي بوصول أسعار الفائدة لأدنى مستوياتها. حيث وصل الاقتصاد الأمريكي إلى المنطقة التي وصفها ذات يوم الاقتصادي الإنجليزي جون كينز عام 1936م بمصيدة السيولة Liquidity Trap ، حيث يعمد الجمهور والمؤسسات عندها للاحتفاظ بالسيولة ويمتنعون عن إنفاقها. ومع أن السياسة المالية تكون أكثر فاعلية في ظروف الكساد، إلا أن ضعف إنتاجية الاقتصاد الأمريكي وتراجع قدرته التنافسية على المستوى العالمي وتعاظم ديونه، يضع شكوكا حول أثر قيام الحكومة الأمريكية بحشد وتجميع تريليونات الدولارات للإنفاق على برامج استحواذ وإنقاذ هائلة (سواء جاءت هذه التريليونات الدولارية عن طريق طبع نقود إضافية ثم حقنها في الاقتصاد، أو جاءت عن طريق الاقتراض) على قيمة ومكانة الدولار كعملة احتياط دولية. وما من شك في أن ضعف العملة هو أول مظاهر ضعف الاقتصاد.
من الواضح أن هناك تحولات عميقة في القوى الاقتصادية والتوازنات العالمية. فسوف تضعف تدريجيا دول وستصعد أخرى، فالأوضاع لن تبقى على حالها لفترة طويلة! الولايات المتحدة تعاني أمرين: ضعف هيكلي في الاقتصاد، وعيوب فنية قاتلة في النظام الاقتصادي. إن التصريحات الأخيرة للرئيس الأمريكي الجديد ونائبه، تدل بشكل واضح على مدى عظم الكارثة التي أصابت الاقتصاد الأمريكي وفداحة آثارها. وإن لم تعمل الإدارة الجديدة على تبني إصلاحات تعالج جوهر الإشكال الذي تعانيه الرأسمالية، فستجد الرأسمالية الأنجلو سكسونية المندفعة وغير المقيدة صعوبة في التكيف مع الواقع الحالي، ولن تعود – كما قال البروفيسور لستر ثرو - تمثل إشراقة المستقبل التي يطيب لأركان اليمين السياسي تمجيدها. عندما يتغير الطقس لابد من تغيير الملابس!