من حكايات البخلاء ..!
يحفل التراث العربي بقصص كثيرة ونوادر جمة عن البخل والبخلاء, ولعل من أعظم المصنفات التي وضعت في ذلك كتاب (البخلاء) لمؤلفه الجاحظ الذي لم ينج من تشنيعه بخيل من بخلاء عصره، مع أن بعض المصادر تصف الجاحظ نفسه بالبخل!
كما ألف الخطيب البغدادي كتاباً آخر عن الموضوع نفسه وبنفس عنوان كتاب الجاحظ, ولحقه في ذلك جمال الدين بن المبرد الدمشقي في كتابه (اتحاف النبلاء بأخبار وأشعار الكرماء والبخلاء), وهذا يبين مدى اهتمام العرب قديماً بالحديث عن شخصيات البخلاء وحكاياتهم, بسبب مقتهم لصفة البخل من ناحية, وحبهم لرواية النوادر من ناحية أخرى.
ولأنني رجل أتشارك مع أسلافي في حب رواية القصص والنوادر، فقد قررت أن أخصص هذه الزاوية اليوم لسرد بعض نوادر البخلاء العرب وأولها حكاية (ديكة مرو) التي قال عنها (ثمامة):
لم أر الديك في بلدة قط إلا وهو لافظ، يأخذ الحبة بمنقاره، ثم يلفظها قدام الدجاجة، إلا ديكة مرو، فإني رأيت ديكة مرو تسلب الدجاج ما في مناقيرها من الحب قال: فعلمت أن بخلهم شيء في طبع البلاد, وفي جواهر الماء، فمن ثم عم جميع حيوانهم.
وعندما سمع أحمد بن رشيد حديث ديكة مرو البخيلة من ثمامة قال: كنت عند شيخ من أهل مرو، وصبي له صغير يلعب بين يديه، فقلت له إما عابثاً وإما ممتحناً: أطعمني من خبزكم، قال: لا تريده هو مر، فقلت: فاسقني من مائكم، قال: لا تريده هو مالح، قلت: هات لي من كذا وكذا، قال: لا تريده هو كذا وكذا. إلى أن أعددت أصنافاً كثيرة كل ذلك يمنعنيه ويبغضه إليّ فضحك أبوه وقال: ما ديننا؟ هذا من علمه ما تسمع؟ يعني: أن البخل طبع فيهم وفي أعراقهم وطينتهم.
ويروي الجاحظ أن بخيلاً قال:
"حبذا الشتاء فإنه يحفظ رائحة البخور، ولا يحمض فيه النبيذ إذا ترك مفتوحاً، ولا يفسد فيه مرق إذا بقي أياماً، وكان لا يتبخر إلا في منازل أصحابه، فإذا كان في الصيف دعا بثيابه فلبسها على قميصه لكيلا يضيع من البخور شيء".
وقيل لبخيل: "قد رضيت بأن يقال: عبد الله بخيل.
قال: لا أعدمني الله هذا الاسم.
قيل: كيف؟
قال: لا يقال فلان بخيل إلا وهو ذو مال، فسلم إلي المال، وادعني بأي اسم شئت!".
وروى أن رجلاً زار قوماً فأكرموه وطيبوه فجعلوا المسك في شاربه، فحكته شفته العليا، فأدخل إصبعه فحكها من باطن الشفة مخافة أن تأخذ إصبعه من المسك شيئاً.
وقالت أعرابية: لزوجها الشحيح: والله ما يقيم الفأر في دارك إلا لحب الوطن!
وكان أبو الأسود معروفاً بالبخل، وكان يقول: لو أطعنا المساكين في أموالنا لكنا أسوأ حالاً منهم. وقال لبنيه: لا تجاودوا الله عز وجل فإنه أجود وأمجد، ولو شاء أو يوسع على الناس كلهم لفعل، فلا تجهدوا أنفسكم في التوسع فتهلكوا هزالاً.
وسمع رجلاً يقول: من يعشي الجائع؟ فقال: علي به، فعشاه، ثم ذهب ليخرج، فقال: أين تريد؟ قال: أهلي، قال: هيهات، ما عشيتك إلا على ألا تؤذي المسلمين الليلة، ثم وضع في رجله القيد حتى أصبح.