المحتالون يظهرون مع قصة جميلة.. وطفرة!
"التجربة شيء لا يمكن الحصول عليه بلا مقابل"
الأديب البريطاني أوسكار وايلد
إنهم يحزمون حقائبهم.. بل إن بعضهم اختفى من دون أمتعته. إنهم يحتالون للهروب من موقع "الجريمة".. يحاولون المرور عبر بوابات المطارات والمناطق الحدودية، بأقنعة المسافرين والسياح العاديين. فعدد ضحاياهم في تزايد، بينما الدائرة تضيق عليهم. إنهم مثل الديدان التي تظهر على الجثث بعد تحللها. فهم مختفون طالما أن الروح لا تزال في جسد الضحية. إنهم مواليد الطفرة.. ولنقل: الفقاعة. هذه أو تلك، وإن خلقتا مجالات للتنمية، فهما توفران أيضا حاضنات للمحتالين. هؤلاء المحتالون ليسوا حكرا على منطقة بعينها في هذا العالم. فللمحتال العربي – مثلا - "زميل" بريطاني وآخر أمريكي وفرنسي ونيجيري وإيطالي وسنغالي وتايلاندي وبرازيلي.. إلى آخر جنسيات هذه الأرض. ولعل هذه "الزمالة" هي الوحيدة التي لا يعرف أطرافها بعضهم بعضا، بصورة صادقة.
في خضم الطفرة يظهر هؤلاء.. وفي سنوات التصحيح يهربون، لا لأنهم سينكشفون، بل لأنهم سيسيرون بتثاقل إلى السجون. ولذلك ظهرت الأسماء تباعا في المنطقة العربية وخارجها. محتال سرق على مدى أشهر – وليس سنوات - عشرات الملايين من الدولارات الأمريكية، وآخر بنى أبراجا سكنية من الوهم، وثالث جمع ما تيسر له من أموال الأفراد الجشعين. فلا الأموال عادت، ولا المباني عمرت. مرة أخرى تثبت نظرية الأكاديمي الاقتصادي جون ماينارد كينيز صحتها في حقب "الطفرات". فهو يقول: "إن الطلب يحدد عرضه الخاص، وفي ظل أي طفرة يتم صنع الثروات ويصبح الأفراد جشعين، ويتقدم المحتالون من أجل استغلال ذلك الجشع". في المنطقة العربية لا نقص في عدد المحتالين والجشعين. وعمليا فإن الشرط الوحيد المطلوب لإغراء وإغواء الجشع.. هو وجود قصة جيدة، ولا بأس أن تكون جميلة. فمنذ أن أطبق فكا الأزمة الاقتصادية العالمية على العالم أجمع، ظهرت صور المحتالين – أفرادا ومؤسسات- وظهرت معها الحقائق الأكثر إيلاما، ولاسيما لأولئك الذين فقدوا مدخراتهم.
في المنطقة العربية.. حاولت الجهات الحكومية طوال السنوات القليلة الماضية، نشر التوعية المطلوبة في أوساط المستثمرين – ولاسيما البسطاء منهم - وحذرت من التعامل مع الأشخاص المشبوهين أو الجهات غير المرخص لها. فعلى سبيل المثال في شهر واحد من عام 2007، نشرت وسائل الإعلام السعودية أسماء أشخاص استغلوا الطفرة الاقتصادية، واحتالوا على ما أمكن لهم من الناس. وكذلك الأمر في بقية دول الخليج، على اعتبار أن هذه الدول عجت بالسيولة وحركة الأعمال في السنوات الماضية. وهذا يدل ببساطة على أن عدد المحتالين الحقيقي كبير.. وكبير جدا. وفي العالم الماضي أظهرت دراسة استبيانية لـ " المجموعة العالمية للشركات المتخصصة في تقديم خدمات التدقيق والخدمات الضريبية والاستشارية" ، حول عمليات الاحتيال في دول مجلس التعاون الخليجي أن قيمة الخسائر الناجمة عن الجرائم المالية في المنطقة قد تصل إلى مليارات الدولارات الأمريكية سنوياً. ومضت الدراسة أبعد من ذلك بإظهارها خسائر فردية للمشتركين في الاستبيان، بلغت قيمتها ما يقارب الـ 100 مليون دولار. إذا القضية كبيرة، وتحتاج إلى الكثير من العمل، ليس فقط للتقليل من عمليات الاحتيال، بل للقبض على ما أمكن من المحتالين، قبل أن يهربوا إلى ملاذاتهم الآمنة. وهناك الكثير منها حول العالم.
لقد استطاعت نسبة من هؤلاء المحتالين الفرار من الضحايا والعدالة، واللجوء بحقائبهم المليئة بأموال غيرهم، إلى المناطق التي توفر لهم الأمان، مع غياب وخز الضمير. لكن أيضا تظهر هنا مشكلة كبيرة جدا. فغالبية المحتالين يمتلكون القدرة والوسائل "المتميزة" على تأمين الحماية للأموال المسروقة، لا لإعادة ما تبقى منها إلى أصحابها، بل للاستمتاع بها ما تبقى لهم من حياتهم. بمعنى أنهم – وإن ضبطوا- فليس بالضرورة أن تضع السلطات المختصة يديها على كل هذه الأموال. فعلى سبيل المثال لا يملك أكبر محتال في العالم - هذه الأيام - رئيس بورصة ناسداك الأمريكية السابق، والمستثمر الشهير برنارد مادوف، من الخمسين مليار دولار أمريكي التي ضيعها وسرقها، أكثر من 300 مليون دولار. وفي التاريخ يبرز المحتال الأمريكي تشارلز بونزي، الذي وعد في عام 1920 – قبل الكساد الكبير عام 1929 - بدفع فائدة تبلغ 50 في المائة على الودائع لفترة 45 يوماً. وفي الواقع كان يقوم بما قام به مادوف -وغيره من "المادوفين" - باستخدام نقود المستثمرين الجدد ليدفع إلى المستثمرين السابقين. فالسلطات التي قبضت على بونزي الذي سرق ما يقرب من ثمانية ملايين دولار – بأسعار العشرينيات من القرن الماضي – لم تجد بحوزته سوى 61 دولارا فقط لا غير.
إذا.. المحتالون لا يظهرون عادة إلا مع قصة جميلة.. وطفرة اقتصادية غير محددة المعالم، ولا ضوابط لها. ومع أنهم يخلفون وراءهم كل الأدلة الدامغة التي تدينهم، وأبشع صورة لـ "القصة الجملية"، إلا أنهم لا يتركون "سلاح" الجريمة – وهو في هذه الحالة أموال الضحايا - وراءهم. ومع ذلك فإن ظهورهم أمام العدالة، لاشك يقلل إلى حد ما مع هول الصدمة التي يعيشها الضحايا. فالقضية لا ترتبط فقط، في ضبط المجرم، بل أيضا في سن القوانين الصارمة التي تقف حائلا بين المحتالين وأموال الجشعين، كما أنها ترتبط بأهمية نشر ثقافة متوازنة، تطرح قضية رئيسية هي أن الطفرة – أية طفرة- وإن جلبت المال بسرعة وسخاء، إلا أنها هي أيضا أكبر مختبر تتحول فيه الأموال بسرعة قياسية إلى مجرد فقاعات.