دور سعودي أكثر نشاطا في سوق النفط

الإطلالة الأولية على عام 2009 فيما يتعلق بالسوق النفطية تشير إلى وضع صعب بكل المقاييس، وهي صعوبة تنبع من ثلاثة عوامل رئيسة: التقلبات السعرية، التي فرضت نفسها حتى على لقاء المنتجين والمستهلكين الذي استضافته العاصمة البريطانية لندن أخيرا وجعلت رئيس الوزراء جوردون براون يصفها بأنها ليست في مصلحة أحد. ثانيهما ضعف الطلب الذي وصل إلى مرحلة التحطم بدليل انتهاء مرحلة النمو والدخول إلى مرحلة التآكل السلبي وذلك لأول مرة في غضون ربع قرن من الزمان. أما العامل الثالث فيتعلق بالوضع الاقتصادي العالمي، الذي يعيش حالة غير مسبوقة بسبب الأزمة المالية الأمريكية التي تحولت إلى عالمية ثم إلى اقتصادية بدأت آثارها تظهر حتى في الاقتصادات الآسيوية، التي كان الأمل معقودا عليها أن تصبح القوة الرافعة لبقية الاقتصادات من حالة الانكماش والتباطؤ السائدة.
كيف يا ترى ستتعامل منظمة الأقطار المصدرة للنفط (أوبك) مع هذا الوضع وإلى أي مدى ستنجح خطواتها في دفع سعر البرميل إلى أعلى؟ قد يكون من المفيد هنا العودة إلى التاريخ واستخلاص الدروس من كيفية تعامل المنظمة مع حالات الضعف التي مرت بالسوق النفطية، وذلك لاستقراء المستقبل.
يعتبر شهر مارس (آذار) 1983 نقطة مفصلية في تاريخ "أوبك"، التي قررت وقتها خفض سعرها الرسمي، وذلك لأول مرة منذ أن تمكنت من تحديد سعر الإشارة قبل ذلك بعقد من الزمان حيث خفضت سعر البرميل نحو 15 في المائة. ذلك الخفض جاء نتيجة ضعف الطلب من ناحية وبروز منتجين جدد من خارج المنظمة في بحر الشمال وألاسكا وغيرهما. على أن ذلك الخفض تبعه أجراء آخر، وهو تخصيص حصص للدول الأعضاء في أطار سقف متفق عليه، وأن تلعب السعودية دور المنتج المرجح الذي يرتفع بأنتاجه ويخفضه حسب حالة السوق في إطار خمسة ملايين برميل يوميا.

ذلك الترتيب لم ينجح لأن الدول الأعضاء لم تتقيد بحصصها الرسمية، الأمر الذي دفع السعودية إلى الاستمرار في خفض إنتاجها إلى أن وصلت الأمور إلى مرحلة عدم الاحتمال عندما تجاوز الإنتاج البريطاني من بحر الشمال إنتاج السعودية، وهو ما دفع الرياض إلى استضافة اجتماع طارئ لكبار المنتجين في الطائف لوضع الصورة أمامهم، وأنه ما لم تتوقف هذه التجاوزات فإنها ستكون في حل من القيام بدور المنتج المرجح، وهو ما حدث فعلا وبعد مضي ما يزيد قليلا على ثلاث سنوات على لعبها ذلك الدور.
وهذه الخطوة السعودية فتحت الباب إلى ما عُرف بحرب الأسعار، حيث تم هجر السعر الرسمي لمختلف نفوط المنظمة والبيع بأي سعر يمكن الحصول عليه، ما أدى إلى تدهور سعر البرميل إلى أقل من عشرة دولارات أحيانا، وهذه الفترة استمرت نحو ستة أشهر ودفعت في النهاية بالمنتجين من خارج "أوبك" إلى ساحة التعاون، وكذلك بعض الدول المستهلكة بقيادة الولايات المتحدة بهدف تثبيت الأسعار. وبالفعل وفي نهاية العام تم الاتفاق على وقف تلك الحرب واستهداف سعر معين للبرميل.
النقطة الجوهرية في هذه الخطوة أنها اعتبرت تقنينا وبالتراضي لاستراتيجية جديدة تقوم على زيادة نصيب "أوبك" في السوق بغض النظر عن السعر الذي ظل مستهدفا. وهي الاستراتيجية التي استمرت على مدى عقد من الزمان وشهدت نصيب المنظمة ينمو تقريبا بمعدل مليون برميل يوميا كل عام ليصل إلى 26 مليونا.
نهاية عام 1997 التقى وزراء "أوبك" في جاكرتا حيث قرروا رفع السقف بنسبة 10 في المائة، وهو قرار لم يأخذ في الحسبان الأزمة المالية الآسيوية التي بدأت طلائعها، الأمر الذي أدى إلى تراجع سعري جديد إلى قرابة عشرة دولارات للبرميل.
وكانت النتيجة المباشرة لهذا التراجع عودة المنظمة إلى سياسة دعم الأسعار عبر الخفض، وهو الاتجاه الذي تبلور فيما بعد بما عُرف بالقيادة الثلاثية للسوق المكونة من السعودية، فنزويلا، والمكسيك بصفتها منتجا نفطيا من خارج "أوبك" تركت لها مسؤولية التنسيق مع المنتجين الآخرين من خارج المنظمة. ونجحت هذه الآلية فيما بعد في رفع الأسعار، كما انتقلت خطوة إضافية باعتماد المنظمة فكرة النطاق السعري، حيث يمكن رفع الإنتاج أو خفضه بمعدل نصف مليون برميل يوميا وتلقائيا فيما إذا انخفض سعر البرميل عن 22 دولارا كحد أدنى أو تجاوز 28 دولارا في الحد الأعلى. على أن استمرار الطلب بسبب انتعاش السوق منذ عام 2000 أدى عمليا فيما بعد إلى هجر هذه الصيغة.
لكن المنظمة عادت مرة أخرى إلى سياسة خفض الإنتاج لدعم الأسعار في خريف وشتاء العام 2006 عندما تراجع سعر البرميل إلى قرابة 50 دولارا فيما عُرف بقراري الدوحة وأبوجا، وهو ما فتح الطريق أمام تصاعد في سعر البرميل إلى أن وصل إلى ذروة لم يصلها من قبل في تموز (يوليو) الماضي وهو 147 دولار ليبدأ بعدها رحلة الهبوط التي لم تستقر عند مستوى معين حتى بعد أن قامت المنظمة بأكبر خفض في تاريخها عند اجتماعها الأخير في وهران وهو 2.2 مليون برميل يوميا، ما يجعل حجم الخفض الكلي أكثر من أربعة ملايين برميل يوميا منذ أيلول (سبتمبر) الماضي.
خلاصة هذه السياحة أن هناك تجارب مختلفة وآليات مختلفة اعتمدتها "أوبك" للتعامل مع ضعف السوق وهبوط الأسعار، لذا فمن المحتمل أن تنهج نهجا مختلفا هذه المرة. ومع أن الإطار العام يبقى خفض الإنتاج إلا أنه يمكن التركيز على عاملين: إن المستهدف الأول من الخفض الأخير هو المخزونات الموجودة لدى الدول المستهلكة ووصلت إلى تغطية 57 يوما من الاستهلاك، والهدف إرجاعها إلى ما يعادل استهلاك 52 يوما.
أما الأمر الثاني فهو الدور المتعاظم الذي يتوقع للسعودية أن تقوم به لتحقيق شيء من الاستقرار النفطي. ومع أن السعودية ظلت دائما لاعبا أساسيا بحكم ثقلها من نواحي الاحتياطي والقدرة الإنتاجية والمنافذ التصديرية، إلا أنها هذه المرة ستقوم بدور أكثر وضوحا، وهو اتجاه برز بصورة جلية خلال العام الماضي عبر عدة مؤشرات مثل الدعوة إلى قمة جدة النفطية في حزيران (يونيو) الماضي في خضم ارتفاع الأسعار واستباقها تلك الدعوة بضخ مزيد من الإمدادات وبصورة انفرادية، ثم إنها كانت أول ما أعلن وقبل الاجتماع الأخير أن "أوبك" على مشارف القيام بخفض إنتاجي كبير، والأهم من ذلك أنها حددت ومن على أعلى المستويات السياسية فيها وهو خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله، أن السعر المستهدف للبرميل هو 75 دولارا، وهو سعر لا يرعى مصالح المنتجين فقط داخل المنظمة، وإنما حتى أولئك الهامشيين، وإلى جانبهم المستهلكين مما يساعد على توفير الاستثمارات اللازمة لتمويل عمليات زيادة الطاقة الإنتاجية مستقبلا حيث ترى الوكالة الدولية للطاقة أنها على مشارف الدخول في حالة صدمة في غضون سنوات خمس. وباختصار يبدو أن السعودية تتولى عمليا دور المنتج المرجح، لكن دون إعلان رسمي. فهي تستمر في برامجها لزيادة طاقتها الإنتاجية إلى 12.5 مليون برميل يوميا بنهاية هذا العام، كما تتحمل مسؤولية أكبر خفض إنتاجي وفق القرارات الأخيرة لدعم السعر التي تدفع باتجاه أن يكون مجزيا للمنتجين والمستهلكين، بل حتى لبرامج الطاقة غير الأحفورية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي