يجب ألا نقلق .. فعصر النفط الرخيص قد ولى إلى الأبد

التراجع الحالي في أسعار النفط الخام يختلف تماماً عن التراجعات التي شهدتها أسعار النفط سابقاً، فبمقارنته على سبيل المثال بتراجع أسعار النفط الخام في ثمانينيات القرن الماضي نجد أن التراجع الحالي ليس ناتجا عن انخفاض في الطلب بسبب ارتفاع أسعار النفط، كما كان عليه الحال في الثمانينيات، وإنما مدفوع بتداعيات أزمة المال العالمية التي يتوقع أن تُدخل الاقتصاد العالمي في انكماش اقتصادي حاد قد يستغرق وقتاً أطول مما كان متوقعا يؤثر سلباً في الطلب العالمي على النفط خلال المرحلة المقبلة.
وكما أن أسعار النفط الخام كانت ترتفع، خاصة خلال عام 2007 والنصف الأول من عام 2008، بمعدلات لا تبررها أساسيات السوق، وأعني بذلك توازن العرض والطلب الآني، وتعكس بشكل أكبر أساسيات السوق في المديين المتوسط والطويل، باعتبار أن الأسواق كانت تتوقع شحا في العرض النفطي مستقبلا بسبب عجز الدول المنتجة عن زيادة إنتاجها بما يتناسب مع النمو المتواصل في الطلب على النفط والذي بدا غير متأثر بالارتفاع المستمر في الأسعار منذ عام 2003، ما جعل تلك الأسعار تواصل ارتفاعها رغم عدم وجود أي شح في الأسواق يبرر ذلك. فإن هذه الأسواق الآن أيضا ورغم الاستقرار نسبي في الطلب على النفط، ليست محكومة بمعطيات السوق الحالية، التي قد تبرر استقرار أسعار النفط عند مستويات مرتفعة نسبيا، وبدلاً عن ذلك فقدت أسعار النفط ما يزيد على 70 في المائة من قيمتها في أقل من ثلاثة أشهر، والسبب هنا أيضا أن أسعار النفط لا تعكس أساسيات السوق الآنية فقط، وإنما تعكس أساسيات السوق على مدى أطول، وفي ظل توقعات متشائمة تشير إلى تراجع أداء الاقتصاد العالمي خلال المرحلة المقبلة نتيجة تفاقم أزمة المال العالمية، فقد استبقت الأسواق تراجع الطلب على النفط وضغطت على الأسعار للانخفاض بحدة.
إلا أن السؤال الذي يفرض نفسه هو التالي: هل هذا التراجع في أسعار النفط يعني أن هذه الأسعار ستبقى عند مستويات متدنية لسنوات عديدة قادمة، كما حدث بعد تراجعها الحاد في منتصف الثمانينيات حيث بقيت منخفضة جدا لما يقرب من عقدين من الزمن، أما أنها ستعاود ارتفاعها من جديد مع أول بادرة على بدء الاقتصاد العالمي تجاوز آثار أزمة المال العالمية؟. قبل الإجابة عن هذا التساؤل من المهم الإشارة إلى الفروق الواضحة بين الحالتين، فعند انخفاض أسعار النفط في منتصف الثمانينيات كان الطلب العالمي على النفط قد تراجع بشكل حاد وفقدت دول "أوبك" جزءا كبيرا من حصتها في السوق النفطية, حتى أن إجمالي إنتاج دول "أوبك" عام 1985 كان قد تراجع إلى نحو 16 مليون برميل فقط مقارنة بنحو 31 مليون برميل عام 1979.
بالمقارنة، نجد أنه رغم الارتفاع الكبير في أسعار النفط الخام منذ عام 2003 إلا أن الطلب العالمي على النفط ظل في نمو مستمر ووجدت دول "أوبك" أنها مضطرة إلى زيادة إنتاجها أمام ضغوط كبيرة من الدول المستهلكة تطالبها بذلك، بحيث إن إنتاج منظمة أوبك من النفط الخام وصل في النصف الأول من عام 2008 إلى 32.4 مليون برميل يومياً مقارنة بنحو 26.4 مليون برميل يومياً فقط في عام 2002، أي بزيادة بلغت نسبتها 23 في المائة. كما ارتفع الطلب العالمي على النفط في النصف الأول من عام 2008 إلى 86.6 مليون برميل يوميا مقارنة بنحو 77.7 مليون برميل فقط في عام 2002، أي بزيادة بلغت نسبتها 11 في المائة، في ظل توقعات تشير إلى حاجة دول المنظمة إلى إجراء رفع كبير في طاقاتها الإنتاجية لتكون قادرة على تلبية النمو الكبير المتوقع في الطلب العالمي على النفط خلال السنوات القادمة. على سبيل المثال، توقعت وكالة الطاقة الدولية أنه على افتراض سعر للنفط بالأسعار الثابتة لعام 2004 يبلغ 57 دولارا للبرميل, فإن الطلب العالمي على النفط سيصل بحلول عام 2030 إلى 118 مليون برميل يوميا، أي بزيادة نحو 31 مليون برميل يوميا مقارنة بمعدلاته الحالية، أما إذا تراجعت أسعار النفط الخام واستقرت عند سعر حقيقي لا يتجاوز 34 دولارا للبرميل، فإن الطلب العالمي سيقفز إلى 128 مليون برميل يوميا، أي بزيادة نحو 40 مليون برميل يوميا عن معدلاته الحالية.
لكل ذلك فإنا نعيش واقعا مختلفا تماماَ عن أي وضع مرت به سوق النفط العالمية سابقاً، بسبب حدوث تغير هيكلي في هذه السوق يتمثل في أن ارتفاع أسعار النفط الخام خلال السنوات الماضية لم يكن ناتجا عن قصور في جانب العرض تسبب في أزمة، كما كان يحدث سابقا، وإنما كان ارتفاعا مدفوعا بشكل أساسي بمعدلات نمو عالية في الطلب ناتجة عن قوة أداء الاقتصاد العالمي في ظل محدودية إمكانات زيادة الإنتاج العالمي من النفط بمعدلات تواكب النمو الكبير المتوقع في الطلب مستقبلا، بالتالي لا مناص من ارتفاع قوي في أسعار النفط يضمن توازن السوق النفطية في المديين المتوسط والطويل. وأي من هذا الواقع لم يتغير على الإطلاق، وكل ما يحدث الآن هو تراجع في أداء الاقتصاد العالمي، ليس بسبب ارتفاع أسعار النفط كما كان يحدث دوما، وإنما بسبب أزمة مالية ناتجة عن أخطاء جسيمة ارتكبت في تنفيذ سياسات عامة ستكون لها انعكاسات سلبية خطيرة على أداء الاقتصاد العالمي لعدة سنوات قادمة.
ومع أول بادرة على بدء تجاوز الاقتصاد العالمي محنته ستعاود أسعار النفط ارتفاعها من جديد, وقد يكون ارتفاعاً أسرع وأقوى من الذي شهدته خلال الخمس سنوات الماضية، فأساسيات السوق النفطية لم تتغير، وإن كان لهذه الأزمة من تأثير في أسعار النفط على المدى الطويل فإنه توقع ارتفاعها بصورة أكبر مستقبلا، نتيجة ما سيترتب على هذا التراجع في أسعار النفط من حد في حجم استثمارات القطاع النفطي في أرجاء العالم ما سيقلل من قدرة الدول المنتجة على زيادة إنتاجها مستقبلا مع بدء النمو القوي في الطلب، ولما سيتسبب به من انتكاسة في جهود تطوير بدائل الطاقة في ظل محدودية جدواها الاقتصادية مع تراجع أسعار النفط. بالتالي فإن التراجع الحالي في أسعار النفط الخام، ومهما كانت حدته أو المستويات التي ستصل إليها هذه الأسعار خلال الأيام أو الأشهر القادمة، سيكون انخفاضا مؤقتا تعاود الأسعار بعده ارتفاعها الحاد، فعصر النفط الرخيص قد ولى إلى الأبد, وأي تراجع في الأسعار يعني فقط ارتفاعاً أكبر وأسرع مستقبلا.
من ثم فإن أخطر انعكاسات هذا التراجع في أسعار النفط الخام على الدول المنتجة ليس تأثيره في إيراداتها النفطية فهو تأثير مؤقت، وإنما ما قد يترتب عليه من سياسات إنفاق متحفظة نتيجة تخوفها من استمرار تدني أسعار النفط لسنوات عديدة قادمة قياساً على تراجعاتها السابقة، ما سيدخل اقتصاداتها في دورة كساد اقتصادي حاد. فكل المؤشرات تدل على أن أسعار النفط ستعاود ارتفاعها القوي خلال فترة وجيزة نسبيا، وبالتالي فإن على الدول المنتجة للنفط التي بنت فوائض مالية كبيرة خلال السنوات الماضية ألا تربط سياساتها الإنفاقية بوضع السوق النفطية في المدى القصير وإنما بوضع السوق النفطية في المديين المتوسط والطويل، والذي يشير إلى أن أسعار النفط وبالتالي إيراداتها النفطية ستكون مرتفعة جدا، وكل ما علينا فعله الآن هو تجاوز عنق زجاجة مؤقت في إيراداتنا النفطية طولها سيعتمد على طول الفترة التي سيستغرقها الاقتصاد العالمي حتى يتجاوز آثار الأزمة المالية العالمية الحالية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي