النفط في عام 2009 .. أكثر من عامل واحد لتحديد الأسعار
شكلت الأزمة الاقتصادية العالمية الحدث الأكبر في عام 2008, وما إن بدأت نتائج هذه الأزمة بالظهور, انهيار في القطاع البنكي والمالي وإفلاس كثير من الشركات العقارية وغير العقارية وازدياد في أعداد الذين يفقدون أعمالهم وتراجع في نسب النمو الاقتصادي في أغلب دول العالم وتعزز فرص دخول العالم في ركود اقتصادي حتى الربع الأخير من العام المقبل، وربما يمتد هذا الركود إلى عام 2010, كل هذه الظروف والنذر السيئة أدت إلى تراجع مستمر وحاد في أسعار النفط في الأسواق العالمية. فبعد أن وصلت الأسعار إلى ما دون 150 دولارا بقليل نشهد اليوم الأسعار وهي تتخطى انحدار عتبة الـ 50 والـ 40 دولارا, وتتزايد التوقعات بأن تصل الأسعار حتى إلى عتبة الـ 30 دولارا, وبهذا يكون البترول قد فقد أكثر من 70 في المائة من أعلى سعر وصل إليه في هذا العام.
من الطبيعي أن تتأثر أسعار البترول بسبب الأزمة الاقتصادية العالمية, فأمريكا التي تستهلك وحدها ما يقارب من ربع الإنتاج العالمي من البترول قد دخلت فعلا في كساد اقتصادي, ولا يتوقع لها أن تحقق نموا اقتصاديا في العام المقبل إلا بحدود أقل من 0.8 في المائة, وقد تتحول الأرقام إلى السالب إذا ما ازدادت الأمور سوءا. ففقدان أكثر من نصف مليون أمريكي لوظائفهم في شهر واحد قد حير الخبراء الاقتصاديين, فإضافة هذا العدد الكبير إلى قائمة العاطلين عن العمل وفي فترة قصيرة جدا هو انهيار اقتصادي, وليس دخولا تدريجيا في مرحلة الكساد. وحتى الرئيس الأمريكي المنتخب أوباما يتوقع أن الأمور الاقتصادية ستزداد سوءا قبل أن يبدأ الاقتصاد بالتعافي من جديد. وفي أوروبا تحاول ألمانيا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا حث الاتحاد الأوروبي للقيام بخطة أوروبية مشتركة تتوازى مع الخطة الأمريكية للتقليل من الآثار الاقتصادية لهذه الأزمة ومحاولة التقصير من أمدها. فالطلب على البترول وبالأخص في الدول الصناعية المتقدمة وفي ظل أزمة اقتصادية بمثل هذا الحجم الكبير لابد أن تتأثر أسعاره وبما يتناسب وحجم الأزمة, وهذا يفسر لنا قلق المتعاملين في السوق العالمية للبترول وإحجامهم عن الشراء بالكميات المعتادة وانعكاس ذلك على الأسعار.
فأهل الخبرة والرأي في الأمور الاقتصادية يرون أن الهبوط في أسعار البترول أمر لا بد منه في ظل الظروف الاقتصادية الحالية وأن مستويات الأسعار الحالية ستساعد دول العالم على الخروج من هذه الأزمة بشكل أسرع. فالأسعار الحالية في نظر هؤلاء الخبراء لا تعكس القيمة الحقيقية للبترول ولا تعبر فعلا عن حاجة العالم إلى هذه السلعة الاستراتيجية التي لا بديل لها لا تقنيا ولا اقتصاديا في الأمد القريب وربما المتوسط أيضا.فهناك من الخبراء ممن ما زال مقتنعا بأننا سنشهد قريبا الأسعار وهي تصل إلى مستوى 200 دولار للبرميل الواحد وأن هذا الهبوط في الأسعار ما هو إلا مرحلة مؤقتة سيتجاوزها العالم بسرعة وأن أسعار البترول ستعاود صعودها حتى قبل أن تبدأ الأزمة بالانحسار.
يتفق الخبراء ويشاركهم في ذلك القادة السياسيون أن الأزمة الاقتصادية هي في بدايتها وأن الإجراءات التي اتخذتها دول العالم منفردة أو مجتمعة وعلى الصعيدين المحلي والعالمي لم تأخذ وقتها الكافي للتأثير في مجريات الأزمة, وبالتالي فمن الصعب التنبؤ بما ستتجه إليه أسعار البترول في العام المقبل. ولكن قراءة العوامل والظروف الحالية التي دفعت بالأسعار إلى الانحدار بمثل هذه السرعة قد يساعد كثيرا على فهم الواقع الذي ستستقر عليه الأسعار في المستقبل. فليس هناك عامل واحد فقط له القدرة وحده أن ينفرد بتحديد مستوى الأسعار, فالأزمة الاقتصادية العالمية والحجم الكبير لتأثيراتها السلبية ستلعب دورا كبيرا من ناحية الطلب على البترول, وهذا بدوره سينعكس على الأسعار ولكن في مقابل الانخفاض المتوقع على الطلب هناك عوامل أخرى لها أيضا تأثيرها في الأسعار، وبالتالي فالأسعار ستحددها مجموعة من العوامل والمؤثرات وهذا من غير حساب للعوامل غير المنظورة والتي قد تفاجئ السوق البترولية وتدفع بالأسعار إلى مستويات أعلى من المتوقع. وإذا كان من الصعب تحديد كل العوامل ومناقشتها في وقت واحد وفي ظل ظروف اقتصادية وسياسية تتغير كل يوم وربما كل ساعة إلا أن هناك مجموعة من العوامل يشترك معظم الخبراء في الشأن البترولي أن قراءتها بشكل جيد تعطينا صورة أكثر وضوحا للأسعار في عام 2009. ومن هذه العوامل ما يلي:
1- ليست المملكة وحدها ومن خلال ما صرح به خادم الحرمين الشريفين أن السعر المنطقي والمتوازن لسعر البترول هو بحدود 75 دولارا للبرميل الواحد, فهناك عدة مراكز دولية مهتمة بقطاع البترول والطاقة ترى أن الأسعار في العام المقبل ستراوح بين 72 ومستوى 77 دولارا للبرميل الواحد, وهناك من يرى إمكانية كبيرة لاستقرار الأسعار عند مستوى 80 دولارا. وحتى الأقل تفاؤلا من هذه المراكز يرى أن معدل الأسعار سيكون في حدود 60 إلى 65 دولارا. فهذه المراكز ترى أن الأسعار قد هبطت إلى هذه المستويات المتدنية بدافع القلق من المجهول لأن الأزمة لم تتحدد معالمها بعد وبمجرد أن يتم احتواء الأزمة وتستقر المخاوف في الأسواق العالمية ستعاود أسعار البترول بالصعود إلى مستوياتها المنطقية. وتصريح المملكة عن نظرتها للأسعار ليس فقط تعبيرا عن رغبتها إلا أنه يعتبر رسالة مهمة للأسواق العالمية بأن المملكة وهي أكبر دول منتجة للبترول في العالم ستبذل جهدها للوصول بالأسعار إلى هذه المستويات التي تراها عادلة للمنتجين والمستهلكين في ظل الظروف الاقتصادية الحالية.
2- سيكون هناك بالتأكيد تراجع في الطلب على البترول من قبل الدول المتأثرة بشكل مباشر بالأزمة الاقتصادية مثل أمريكا وأوروبا, ولكن هل سيتأثر مستوى الطلب العالمي على البترول في العام المقبل. فمراكز الدراسات البترولية والاقتصادية والمؤشرات المستقبلية تشير إلى استقرار على مستويات الطلب الحالية مع ربما ارتفاع عن المستوى الحالي بأكثر من 250 ألف برميل يوميا, فالانخفاض في الطلب في أمريكا وأوروبا سيكون محدودا وسيقابله ارتفاع في الطلب من قبل دول مثل الصين ودول شرق آسيا وأمريكا اللاتينية. وهذا الاستقرار في الطلب العالمي وبعد تجاوز أجواء الخوف والقلق المحيطة بالسوق هو الذي سيعود بالأسعار إلى مستوياتها المنطقية وهي في حدود 70 إلى 80 دولارا للبرميل الواحد.
3- لا ننسى أننا في نهاية العام, وهذه المرحلة من الزمن دائما تشهد تسييل للمحافظ والصناديق الاستثمارية, وبالتالي فهناك إحجام من قبل المؤسسات المالية التي تدير مثل هذه الصناديق والمحافظ على الاستثمار في أسواق البترول وهذا أدى إلى قلة مشترين أو متاجرين بهذه السلعة, وليس الأمر كله قلة طلب على شراء البترول. ومع بداية السنة القادمة ستعاود هذه الصناديق الدخول في السوق مرة أخرى وبزيادة المتاجرين بهذه السلعة ستتأثر الأسعار إيجابا و ستستقر في مستوياتها الطبيعية.
4- التزمت دول الـ "أوبك" بتخفيض إنتاجها اليومي بأكثر من مليوني برميل وهي تبدي استعدادها لإجراء المزيد من التخفيضات في المستقبل القريب, وقد تتخذ قرارا بذلك في اجتماعها المقبل في الجزائر, وخبراء البترول يرون أن التزام دول الأوبك بحصصهم المقررة هو من أكثر العوامل التي ستدفع بالأسعار إلى الاستقرار في المستويات السعرية التي تسعى إليها المنظمة.
5- الخوف من انحدار الأسعار إلى مستويات متدنية وغير مجدية اقتصاديا في الكثير من الدول المنتجة سيوقف الاستثمار في قطاع البترول ومعاودة الاستثمار في هذا القطاع بسرعة ليس بالأمر الممكن أو السهل وبالتالي فمخاوف نقص البترول وعدم تناسب الطلب والعرض عليه مستقبلا ستعود لتشكل قوة مؤثرة للصعود بأسعار البترول إلى أعلى بكثير من مستوياتها الحالية.
قبل حدوث الأزمة الاقتصادية العالمية وصلت الأسعار إلى مستويات عالية جدا, ومع ذلك كانت في نظر المراقبين والخبراء أنها أسعار عادلة, وتعكس القيمة الحقيقية لهذه السلعة وتعبر فعلا عن حاجة العالم المتزايدة لها. فهذه الأزمة الاقتصادية وإن جاءت بعوامل أثرت فعلا في الأسعار في الوقت الحاضر إلا أن حاجة العالم للبترول ستزداد بعد احتواء الأزمة وفي ظل خروج بعض الدول المنتجة من السوق. هناك الكثير من العوامل التي كلها تؤكد أن عصر البترول الرخيص قد ولى فعلا وعلى العالم أن يقبل بأسعار عادلة للبترول مستقبلا.