ميزانية 2009 تتحدى الأزمة .. والعجز المرتقب صحي

فيما يلفظ العام الميلادي آخر أنفاسه، يورث السعوديين ربما أجمل هدية في زمن جفت فيه منابع الكرم, فها هو عام 2008 يوشك أن يقفل بفائض تاريخي يقدر بـ 590 مليار ريال كأكبر فائض في تاريخ الميزانيات السعودية, وهذا على الرغم من الزيادة السخية في مستوى الإنفاق خلال العام ذاته, الذي جاوزت الميزانية المحددة بأكثر من 100 مليار ريال لتصل إلى 510 مليارات ريال.
تراهن الميزانية عام 2009 فيما يبدو على عدة دعامات رئيسة تستمد منها الحكومة الثقة بقدرتها على الوفاء بالتزاماتها لمثل هذه الميزانية, وربما أهم هذه الدعامات هي متانة الاحتياطات الأجنبية، وتعاظم دور القطاع الخاص في الاقتصاد السعودي، واستمرار التدفقات النقدية من القطاع البترولي رغم المتاعب التي يبينها التأرجح الحاد في الأسعار.
من المناسب عند استعراض ميزانية 2009 الإشارة إلى أنها تأتي في تحديات غير اعتيادية ألبتة. والواقع أنها الأصعب في تاريخ ليس السعوديون وحدهم بل سكان الأرض قاطبة منذ عشرات السنين, فالاقتصاد العالمي يعانى عاصفة قاسية لا تبقى ولا تذر, جديدة كليا في شكلها وحجمها، والأدهى والأمر أنها لم تضرب القاع ولم تصل النهاية حتى الآن, ومثل هذه الأزمة ترمي بتداعياتها وبقوة على معظم جوانب الاقتصاد السعودي- حاله حال أي اقتصاد- في وقت تطمح فيه السعودية إلى خطة تنموية تاريخية لتنفيذ مشاريع مستقبلية تناهز قيمتها 600 مليون دولار، وإضافة إلى تباطؤ النمو الاقتصاد العالمي ومخاطر الانكماش المرتقب وشح السيولة في أسواق المال الدولية لتمويل هذا الحجم من الخطة التنموية يطل تحد آخر لا يقل شراسة, وهو الانخفاض الحاد في أسعار النفط والتأرجح الحاد لهذه السلعة التي شكلت وحدها أكثر من 90 في المائة من عائدات الدولة عام 2008.
قدرت ميزانية 2009 حجم الإيرادات بمبلغ 410 مليارات دولار, وفى ظل الركود الاقتصادي العالمي لمعظم مناطق الطلب على النفط في الأسواق الدولية, وأيضا إقدام السعوديين على قيادة تحالف لخفض الإنتاج كان لزاما على مواصلة الحكومة تبني تقديرات منخفضة للإيرادات البترولية عند بناء الميزانية, ويبدو أن الحكومة ستواصل سعيها الحثيث إلى رفع الأسعار إلى مستوى 75 دولارا, والذي أعلنت القيادة رؤاها بأنه السعر العادل للنفط. في الوقت ذاته واصلت الحكومة حفظ الإنفاق بثبات وتوازن إدراكا منها أهمية دورها في إنعاش أوردة الاقتصاد المحلي عن طريق الإنفاق الحكومي واستهدفت إنفاقا يصل إلى 475 مليار ريال، سخر ما يقارب نصفها لمشاريع جديدة تزيد على 225 مليار ريال، وفى مدعاة للتفاؤل وتركز الجزء الأهم منها في قطاعي التعليم والصحة, إضافة إلى مواصلة دعم البنية التحتية وطبقة ذوى الدخل المحدود, ورغم انخفاض المستوى المستهدف للإنفاق لعام 2009 عن الإنفاق الفعلي عام 2008، إلا أنه - في خضم أحداث المسرح العالمي- يعد إيجابيا ويعكس ثقة الحكومة بإمكانية الوفاء بالتزاماتها.
استثمرت الحكومة فوائض الميزانيات السابقة منذ سنوات بشكل متدرج ومتوازن في شقين أساسيين, أولهما سداد الدين العام تدريجيا وفى الوقت ذاته مواصلة بناء الاحتياطيات، ورغم قدرة الحكومة في السابق على سداد الدين منذ فترة طويلة إلا أنها تبنت توجها أكثر فاعلية عن طريق استخدام هذا الدين كإحدى وسائل السياسة المالية الناجحة للتفاعل مع مستويات السيولة وحجم التضخم أيضا، وما من شك في أن مستوى الدين العام الذي يقف حاليا عند مستوى 237 مليار ريال, وهو ما يوازي 13 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي, يعد منخفضا حتى بالمعايير الدولية, فالولايات المتحدة, على سبيل المثال, تمثل ديونها نحو 60 في المائة من الناتج المحلي. ومن المناسب هنا الإشارة إلى أن هذا الدين يعد في معظمه محليا، ما يجنب مخاطر الانكشاف من خلال ناحية أسعار الصرف, ومعظم هذا الدين يعود أساسا إلى صندوقي معاشات التقاعد والمؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية, إضافة إلى البنوك التجارية, و وجود مثل هذه السندات في واقع الأمر يساعد القطاع المصرفي على معالجة التشوه الهيكلي الناتج عن عدم تطابق أو ملاءمة الالتزامات طويلة الأجل مع الأصول طويلة الأجل نتيجة لغياب سوق عميق ومتكامل لسندات الدين, ومثل هذا الخلل يترك المصارف بين خيارين أحلاهما مر، وهما إما العزوف عن تمويل المشاريع طويلة الأجل تجنبنا للمخاطرة, ما يعرقل كثيرا من مشاريع التنمية, وإما استخدام الخصوم قصيرة الأجل لتمويل المشاريع طويلة الأجل وتحمل مخاطر الانكشاف الواردة, وعليه فإن وجود مثل هذا الدين ليس فقط يدعم التنمية ولكن يساعد القطاع الخاص على المساهمة في المشاريع التنموية الطموحة، على أنه يجب الإشارة إلى أهمية أن تراعي الحكومة مستويات السيولة في أسواق المال وتضمن عدم تأثرها سلبيا بسبب مثل هذه الإصدارات, وذلك بضخ مزيد من السيولة من الاحتياطات في الوقت ذاته في القطاع المصرفي وأسواق المال.
عام 2009 ربما سيكون الأقسى منذ عقود طويلة على معظم الاقتصادات الدولية, والعاصفة التي ضربت بعنف مفاصل الاقتصاد العالمى, ربما لم يصل حتى الآن إلى الخليج سوى دويها فقط, وأغلب الظن أن شهور العام المقبل حبلى بالأقسى والأكثر إيلاما. ومخاطر الانكماش العالمي الذي يتجاوز إلى الكساد لن يسلم منه إلا من رحم ربي, ولكن أغلب الإيمان أن الميزانية السعودية في الوقت ذاته رسالة عنيدة في وجه الأزمة وتعكس إصرارا على حماية التنمية ومواصلة البناء, وستعمل بشكل فاعل على تخفيض مخاطر التضرر من مثل هذه الأزمة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي