بعض الأحياء كنوز مهملة!
من الأمور المشاهدة والمستغربة - خلال الأعوام العشرين الماضية - انتقال الكثير من الأسر السعودية من أحيائهم السكنية (مثل: حي الملز وحي عليشة في مدينة الرياض)، التي تم سفلتة شوارعها ورصفها وإضاءتها وتشجيرها، وتوفير جميع مرافق البنية التحتية فيها من: ماء، كهرباء، هاتف، وصرف صحي، وتزويدها بغالبية مباني خدمات الأحياء الأساسية (مثل: المساجد، والمدارس، والمستوصفات). ورحيل السكان عن هذه الأحياء - ذات الخدمات المكتملة - وهجرها للعيش في أحياء بعيدة عن مركز المدينة، وعن الكثير من مواقع الأنشطة الحكومية والتجارية، والتي لا يتوافر فيها - في الغالب الأعم - إلا النزر اليسير من المرافق والخدمات؛ ليقضوا بعد ذلك سنوات من عمرهم – تراوح بين الخمس والعشر سنوات – في معانة يومية مع المنغصات الناتجة عن استمرار تشييد المساكن في الحي، والإزعاج الصادر عن الأعمال الإنشائية لتوفير المرافق والخدمات اللازمة (من: حفر، ردم، وتسوية)، وما يصاحبها من الضجيج الصادر من معدات الحفر والرصف وشاحنات النقل، والتلوث المستمر من الغبار المنتشر - بشكل دائم - في الأجواء، وتأثيراته السلبية في صحة السكان وعلى النظافة العامة للحي.
ولكن كما يقال: للناس فيما يرغبون مذاهب. فأنا لا أنتقد رغبتهم في الانتقال إلى حي أو منطقة بعينها؛ لقربها من أماكن عملهم، أو سكن أقاربهم، أو غيرها من الأسباب، كما أني لا أنتقد رغبتهم في الانتقال إلى مسكن آخر بتصميم أو شكل أو مساحة توافق تطلعاتهم، ولكني أحزن لتركهم الأحياء ذات الخدمات والمرافق المكتملة؛ للعيش في أحياء لا تتوافر فيها كل الخدمات والمرافق، ولتحمّلهم المعاناة الناتجة عن نقصها، وما يصاحبها من منغصات حتى يتم اكتمالها. وما يحزنني أكثر أن غالبية الأحياء التي يتركها سكانها الأصليون لا تسكن من قبل أسر أخرى، وإنما تتحول إلى تجمعات سكنية مكتظة بالعمالة أو مكاتب أو مستودعات أو أي استخدام آخر، فتتعطل بذلك الكثير من الخدمات (مثل: المدارس، المستوصفات، والحدائق) التي أنفق على توفيرها الملايين لتحقيق بيئة سكنية مثالية للأسر القاطنة في الحي. ولأن الحي السكني نسيج عمراني بخصائص اجتماعية واقتصادية متفردة؛ فإن بداية التغيير فيه وهجر بعض الأسر له وتغير استخدام بعض مساكنه؛ يحدث سلسلة من التداعيات التي تدفع ببقية الأسر إلى الرحيل من الحي ومغادرته.
إن الكثير من الأحياء السكنية التقليدية في منطقة وسط المدينة، والأحياء الواقعة حول منطقة وسط المدينة، التي خططت شوارعها بالنظام الشبكي، وشيدت فيلاتها بالخرسانة المسلحة؛ تعد كنوزاً مهملة يلزم العمل على اكتشافها وإعادة استثمارها. فعلى المعنيين بتطوير المدن تحديد العوامل المسببة لتغيير الاستعمالات في الأحياء السكنية، وتقييم وضع الأحياء المتدهورة، وصياغة استراتيجيات وآليات تطويرية للنهوض بها عمرانياً واجتماعياً واقتصادياً، بعد تحديد أولويات التدخل ووضع خطة المعالجة؛ للرفع من مستوى الأحياء السكنية القائمة والمحافظة عليها، والحرص على عدم تغير استخدامها (إلى تجاري أو غير ذلك)، بل إن التفكير الاقتصادي يوجه إلى العمل على الرفع من الكثافة السكانية – بنسبة مقبولة - داخل الأحياء ذات الخدمات والمرافق المكتملة؛ لاستغلال مرافقها وخدماتها بشكل أمثل، ولتوفير بيئة سكنية أفضل بتكلفة تطوير أقل.