الأزمة المالية العالمية.. على مَنْ تقع اللائمة؟!

الأزمة المالية العالمية.. على مَنْ تقع اللائمة؟!

لا أحد يشك مطلقا في مسؤولية الولايات المتحدة عما جرى ويجري في الأسواق المالية، بل هي من أشعل فتيلها فكوى واكتوى بنارها، فهي أجدر من يُلام بهذه القضية بالذات وتتحمل وزر كثير من القضايا العالمية الأخرى. فهل نقع تحت طائلة اللوم طالما أن أجهزتنا الاستثمارية المتنوعة لم تستطع التنبؤ بمثل هذه المتغيرات الاقتصادية الدولية على الرغم من وجود مؤشرات قوية تُنذر بتراجع الاقتصاد الأمريكي, التي كان بإمكان المراقب المتخصص الحاذق أن يتوقع حدوثها ومن ثم التصرف بشكل استباقي لمقاومة تداعياتها المُحتملة؟ هل لأن كفاءة الجهاز الاستثماري لدينا محدودة وتعمل بطريقة نمطية تقليدية غير إبداعية؟ قد يقول قائل وما لنا نحن، فكثير من الدول وقعت في هذا المطب الصعب كالصين واليابان, وهما أكثر تقدما وأكثر مهنية. أسئلة مستحقة والإجابات عنها واجبة كي نأخذ العبرة ونخطط بطريقة سليمة لمستقبل بلدنا ومواطنينا. لا شك أن الأحداث الاقتصادية المتسارعة أدت إلى نوع من عدم التوازن واليقين لكثير من الاقتصادات العالمية ما روج بشكل كبير لكثير من الأفكار المناهضة للعولمة وللرأسمالية بشكل خاص. الأمر لم يعد إفلاس بنوك وعدم قدرة أفراد على سداد المستحقات المالية عليهم، إنما تعداها لإفلاس بلدان أو على شفير الإفلاس مثل باكستان وآيسلندا. ومع ذلك فالأزمة في بداياتها ولا نعرف متى تصل نهاياتها وهي بذلك ستجرف معها بلدانا واقتصادات كثيرة، لأن القطاع المالي كالدورة الدموية للقطاعات الحقيقية.
الاستثمار هو عبارة عن تيار من الإنفاق على الأصول الإنتاجية مضافا إليه التغير في المخزون السلعي سواء كانت سلعا وسيطة أو نهائية، ولا شك أن الاستثمار في شقه المالي مهم جدا, خاصة في هذا العصر, وذلك بشراء الأوراق المالية كالأسهم والسندات وأذونات الخزانة.. إلخ, فهي من وجهة نظر الأفراد تعد استثمارا بينما هي من وجهة نظر المجتمع لا تعدو أن تكون انتقالا لملكية هذه الأوراق المالية. عموما السمة الغالبة على الاستثمار هي التقلبات على عكس الإنفاق الاستهلاكي, لذا نجد أن التنبؤ المستقبلي باستثمارات كهذه مُحاطة بالمصاعب, خاصة إذا كانت الاستثمارات المستقبلية طويلة الأجل كونها تتأثر بعوامل كثيرة وعليه فإن القرار الاستثماري الخاص لا بد أن يهدف في المقام الأول إلى تحقيق أقصى قدر من الأرباح. من الواضح أن هناك علاقة قوية جدا بين الإيرادات وأسعار الأسهم، ولذلك تلقى إيرادات الشركات عناية خاصة وعليه فإن أي مستثمر يطمح إلى إجراء تحليل أساسي فإنه يبدأ بدراسة الإيرادات وبالأخص تحليل البيانات المالية التي تشمل قائمة الدخل. تشمل قائمة الدخل ملخصا لربحية الشركة على امتداد فترة زمنية, في الغالب سنة, بحيث تشمل العوائد المتولدة خلال فترة النشاط التشغيلي للشركة وكذلك المصروفات، كما تشمل قائمة التدفقات النقدية على تقرير بالتدفقات النقدية المتولدة عن النشاطات التشغيلية وكذلك عن الاستثمارات والنشاطات المالية التي تحتاج إليها الشركة لضمان استمرارها في القيام بنشاطاتها التشغيلية. يُضاف إلى ذلك الميزانيات العمومية للشركات، وهذه الميزانيات عبارة عن قوائم تضم الموجودات والمطلوبات للشركات في أوقات محددة. أيضا لا ننسى أهمية دراسة العلاقات التي تربط مجموعة العناصر التي تتكون منها القوائم المالية كنسب السيولة التي تشير إلى قدرة الشركة على الوفاء بالتزاماتها المالية على المدى القصير، (عام كامل). نسبة معدل دوران الأصول وهي تهتم بقياس درجة الكفاءة في توظيف واستخدام الأصول التي تستخدمها الشركة. أيضا يضاف إلى ذلك نسب المديونية كونها تساعد على تقييم درجة المخاطرة المترتبة على استخدام الديون في تمويل رأس مال الشركة. أما نسبة الربحية فهي المؤشر الأساس والأقوى وتعكس النتيجة النهائية للنشاط التجاري بحيث تشمل نسبة هامش الربح ومعدل العائد. التحدي الحقيقي الذي تواجهه المملكة في مجال الاستثمارات على مستويين، الأول الاستثمارات العامة بما فيها الصناديق السيادية والآخر على مستوى القطاع المصرفي والشركات الإنتاجية الكبرى كـ "سابك" والصناعات البتروكيماوية.
لا غرو أن الصناديق السيادية هي استثمار طويل وآمن للأجيال المقبلة وعليه لا بد من توخي الحيطة والحذر بحيث تتم الاستثمارات بشكل مدروس ومتوافق مع النظريات الاستثمارية التي تحث على الابتعاد عن المغامرة والبحث عن الأمان, لأن العائد المتوقع لا يُنظر إليه من منظور قريب, بل سيكون على المدى الطويل، وعليه فإن المستثمر الواعي, خاصة في الاستثمارات العالمية, عليه مراقبة مؤشرات مهمة تكون مرشداً له عند قرارات البيع أو الشراء أو عند تبديل مركزه الاستثماري، ولعلنا نذكر منها تكلفة وحدة العمل، أسعار النفط، معدلات الفائدة، الأسواق العالمية، وكذلك قيمة الدولار بالنسبة إلى العملات الأخرى, لأن الاستثمارات المحلية والعالمية تتأثر به. من النتائج المهمة التي أفرزتها هذه الأزمة هو العمل الجاد على تنويع محافظنا الاستثمارية في أغلب أصقاع الأرض، فالفرص لم تعد حكرا على دولة دون أخرى, وعليه فمن المفترض في الجهاز الاستثماري أن يكون على مستوى عال من العلم، الخبرة، الحرفية، والكفاءة في اتخاذ القرارات. هذا بالتأكيد لن يتأتى إلا بوجود فرق تجمع بين العلم والخبرة والممارسة، فنجاح شخص في إدارة محفظة استثمارية في وقت من الأوقات بناء على خبراته فقط لا يعني نجاحه على الدوام إذا لم يقرن ممارساته بالتأهيل العلمي العالي في هذا المجالات. ما أود تأكيده هنا هو دور الجهات المختصة كوزارة التجارة ومؤسسة النقد العربي السعودي في تثبيت قاعدة الكفاءة في إدارة المحافظ الاستثمارية، وفي هذا السياق أود التوصية بإشراك القطاع الأكاديمي المتخصص في المشاركة في إدارة المحافظ الاستثمارية الكبيرة والمهمة وفي مجالس إدارات القطاعات الإنتاجية والخدمية كالشركات الكبيرة والمصارف، لسبب معلوم للجميع وهو أن الشخص الأكاديمي المتخصص على اطلاع ودراية واسعة في مجاله سواء كانت هذه المجالات اقتصادية، إدارية، أو مالية بعامة، وعليه فقراراته لا بد أن تكون مدروسة بعناية فائقة وكذلك اتخاذه القرارات سيمر بمراحل من الفلترة ما سينتج عنه قرارات ناضجة وسليمة وتخدم الأهداف العليا الوطنية للاستثمار, وهي حفظ حق من حقوق الأجيال المقبلة ومعالجة أي خلل ينتج عن انكماش في إيرادات الدولة خلال المستقبل المنظور. فهل نعي أهمية مشاركة من ضحينا من أجل تعليمهم في قضايانا المصيرية ليردوا ولو جزءا يسيرا لوطنهم؟ نأمل ذلك.

أكاديمي واقتصادي سعودي
[email protected]

الأكثر قراءة