"تأميم" نادي النخبة!
"لتغيير إنسان بصورة إيجابية لا بد من تغيير فكرته عن نفسه" عالم النفس الأمريكي أبراهام ماسلو ... المسافة الزمنية بين تشرين الثاني (نوفمبر) 2008، الذي شهد انعقاد "قمة العشرين" الأولى في واشنطن، التي ضمت رؤساء أكبر 20 اقتصادا في العالم، وبين نيسان (أبريل) 2009، الذي سيشهد القمة الثانية لـ "العشرين"، ليست طويلة، خصوصا أن القمة المقبلة ستخصص لقراءة مسار التوصيات التي خرجت بها القمة الأولى، لمواجهة الأزمة الاقتصادية العالمية، فهول الأزمة يحتاج إلى قرارات للتنفيذ، لا توصيات للمراجعة، وإن تطلب الأمر وقتا أطول. صحيح أن "الثمانية الأكبر"، أصبحوا بعد اجتماع واشنطن "العشرين الكبار"، لكن القمة لم تقترب من تجمع واشنطن التاريخي الذي عقد في تموز (يوليو) عام 1944 في ذروة الحرب العالمية الثانية، استغرق التحضير له أكثر من عامين ونصف العام، واستمر ثلاثة أسابيع (لا ساعات)، بمشاركة 730 وفدا من 44 دولة كانت في صف "الحلفاء"، ضد دول "المحور" خلال هذه الحرب، الذي أسفر عن وضع نظام عالمي مالي أطلق عليه اسم "نظام بريتون وودز"، تيمننا باسم المنطقة التي عقد فيها.
ما هذا النظام؟ هو باختصار مجموعة من القوانين التي تنظم العلاقات المالية بين الدول المنضوية تحت لوائه أولا، ومجموعة أخرى من اللوائح التي رسمت معالم الوضع المالي المستقبلي على مستوى العالم، لاسيما بين الدول المستقلة. وقد أنشأ من خلال نظام بريتون وودز، ما أصبح يعرف ببنك "الإعمار والتنمية"، المعروف اختصارا بـ IBRD، الذي أصبح الآن واحدا من خمس مؤسسات تعمل ضمن نطاق مجموعة البنك الدولي، فضلا عن قيام "صندوق النقد الدولي". وعلى الرغم من أن هذه المؤسسات لم تبدأ العمل فور الاتفاق على قيامها، إلا أنه تم تفعيلها مباشرة في أعقاب انتهاء الحرب الثانية. ببساطة شكلت أسس اتفاق "بريتون وودز" النظام العالمي المالي بعد الحرب.
لا توجد حرب الآن بمستوى الحرب العالمية الثانية، بل تدور معركة عالمية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من مؤسسات مالية متداعية، ولإنقاذ اقتصادات دول بأكملها. وإذا كانت جروح الحرب الثانية أصابت "الجسد" ـ مع أضرارها الإنسانية والسياسية ـ تصيب الأزمة الاقتصادية الحالية المجتمع، وتنال في بعض فصولها من الأخلاقيات. ولأنها كذلك فالأمر يحتاج إلى كثير من التجمعات الكبرى، لا الاجتماعات التقليدية، التي عادة ما ينتج عنها نوادي النخبة. كما أنها تحتاج إلى قوانين جديدة، تأخذ بعين الاعتبار التحولات الدولية، والمتغيرات ضمن نطاق المجتمع الدولي. ولعل من إيجابيات "قمة العشرين" الأخيرة، هي ضمها لدول ـ وفي مقدمتها المملكة ـ كانت حتى وقت قريب خارج "سرب النخبة"، فالدول النخبوية كسرت عنجهيتها، ليس بقرارات منها، بل من فرط اهتزازها أمام ضربات الأزمة، التي لم تعترف بكبير، وإن كانت لم تراع الصغير أيضا.
التحولات التي ظهرت على الساحة، ليس فقط من زخم سوء الاستراتجيات الاقتصادية التي اتبعتها الدول الكبرى، وفي مقدمتها طبعا الولايات المتحدة، بل من المبدأ الواضح المعروف الذي دائما يتجاهله الأقوياء، وهو أن "الأوقات تتغير"، ومعها تتغير المعطيات والحقائق على الأرض. هذه التحولات كسرت بوابة النخبة، وأجبرت قادة الدول الكبرى خلال "قمة العشرين" على الاعتراف بصورة أكثر وضوحا أن الأزمة الاقتصادية العالمية حقيقية، ولا سيما أن هؤلاء القادة كانوا حتى أشهر قليلة ينفون وجود أزمة الرهن العقاري، ويهاجمون بقوة كل من يقول: إن اقتصادات بلادهم دخلت مرحلة الكساد. وكان الأكثر واقعية منهم يحب أن يطلق على الكساد صفة التباطؤ. هذه الذهنية ولدت تباطؤا في الاعتراف بالأزمة مبكرا وعملت على استفحالها، بصورة دفعت بعض الوزراء في الدول الكبرى ـ مرة أخرى الواقعيين منهم ـ للاعتراف أنهم لا يسيطرون على الأمور، وفي مقدمتهم وزير المالية الألماني.
مهما كانت تصريحات غالبية القادة الذين شاركوا في "قمة العشرين" وردية، إلا أنه من أهم الاختلافات ـ لكي لا نقول خلافات ـ التي لم تحسم بعد هي حول الطرح الأمريكي بخفض الضرائب، لإنعاش الاقتصادات، فعلى سبيل المثال ترى ألمانيا (ثالث أكبر اقتصاد في العالم)، ومعها كندا (سادس أكبر اقتصاد)، أن هذا الطرح يحمل في طياته أزمة أعلى مستوى من الحل نفسه، لأن ذلك سيدفع الحكومات إلى مزيد من الاقتراض، وبالتالي ستبقى الاقتصادات رازحة تحت رحمة الكساد.
أيضا هناك اختلافات في آليات الحل حول قضية خفض الفائدة، فهذه في النهاية حلول آنية لأزمة تشوبها الاستدامة. وعلى الرغم من الاتفاق على بدء فرض رقابة وقيود لعمليات الإقراض في المصارف التجارية، فإن خفض الفائدة يدفع ببساطة إلى تشجيع الاقتراض الفردي، علما أن هذه هي الشرارة التي فجرت الأزمة الاقتصادية الراهنة.
لقد كمنت الجوانب غير الإيجابية في "قمة العشرين" في العموميات وغياب تفاصيل الحلول. صحيح أن أي شيء جديد يحتاج إلى مرحلة من المراقبة والمتابعة، لكن الأزمة الاقتصادية العالمية، تجاوزت بخطورتها هذه المرحلة، وتستدعي وضع نظام اقتصادي عالمي جديد، مشابه بقوته وتأثيره النظام المالي العالمي الذي ولد في بريتون وودز عام 1944، فالتوصيات لا يكون لها أثر في غياب آلية تنظم ما هو موجود على الأرض، وهي عادة تكون بمثابة عملية إصلاح لشيء قائم، لا لكيان منهار.
على كل حال.. هذا لا يعني أن "قمة العشرين" كانت خالية من الجوانب الإيجابية، فالجانب الأهم انحصر في أن "نادي النخبة"، دخل نطاق "التأميم" بضمه دول لم تعد تقبع على الهامش، ولم تعد من الدرجة الثانية. ألم تقدم دول تعيش "اقتصاد السوق الحر"، على تأميم مصارف ومؤسسات مالية حماية لها، وبالتالي حماية للمودعين فيها؟ هي مقاربة تختلف في الهيكلية، لكنها تتفق تماما مع حقائق التغيير.