يا إلهي.. من يسيطر على الأمور إذا؟!

يا إلهي.. من يسيطر على الأمور إذا؟!

"الحقيقة تترك الكثير من الخيال وراءها "
الشاعر والمغني البريطاني جون لينون

إنها هي... ها قد وصلت براثن الكارثة المالية العالمية إلى الأسرة العربية. تحيط بها من كل جانب. تنتظر الوقت. لا تحدد الأهداف، لأن الأهداف تحددت أصلا، مع انطلاق شرارة أزمة أمريكا، لتنشر حممها كقبة فوق العالم. الكارثة التي خلقت أزمة اقتصادية عالمية، لم يسبق لها مثيل منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، أخذت في طريقها نحو المنطقة العربية، كل من يدعي الحصانة من الأزمات الاقتصادية. فالكبير لم يعد يعتد بهامته، أما الصغير فلا هامة له أساسا. والمؤسسات التي كانت تتباهى لعقود بأن لها من القدرة في مساعدة حكومات، تحولت إلى باحث عن أقرب مركب نجاة، وتسعى لدى الحكومات نفسها لإنقاذها. فالكارثة بلغت حدا حولت المؤسسات التي كان يفترض أنها لا تقهر، إلى أفراد يعيشون في دولة نامية، لا يمارسون في معيشتهم، إلا عملية شد الأحزمة، لا للتوفير فقط، بل لتخفيف آلام الجوع.
ماذا تفعل هذه المؤسسات (المالية وتلك المرتبطة بها) حاليا ؟ تقوم بالتخلص من أكبر عدد من العاملين فيها. ما هي النتائج؟ أزمة اجتماعية كبيرة، لن تحل طالما بقيت الأزمة الكبرى، مثار بحث عن مخرج من نفقها الهائم في الظلام. فالدول الكبرى، ولا سيما تلك التي تتحكم بأكثر من 90 في المائة من الاقتصاد العالمي، لم تكمل بعد رسم خريطة النفاذ من هذا النفق. ويبدو أنها تحتاج إلى مزيد من الوقت لوضع الخط الأخير عليها، لأن الخلافات ـ وللتخفيف ـ لنقل الاختلافات في وجهات النظر، ليست محصورة ـ الآن على الأقل ـ في سبل إيجاد آليات الإنقاذ، بل تكمن في المبادئ الاقتصادية التي يجب أن يقوم عليها العالم. وهذه لوحدها ربما تحتاج إلى عقد من الزمن أو أكثر لكي تجمع المتفقين حولها، خصوصا بعد أن أحدث وقع الأزمة العالمية تغييرات تاريخية، تجاوزت حد التمرد، لدى شريحة مؤثرة من الذين كانوا يؤمنون بالمبدأ نفسه، ولا سيما أولئك الذين كانوا يقدسون ما يعرف بـ "اقتصاد السوق المتحرر من كل الضوابط".
وإذا كانت هذه القضية تحتاج إلى سنوات لكي تتضح الصورة أكثر، لأن الأمر يرتبط بأدبيات اقتصادية، لا بحركة سوق. فإن آثار الكارثة الاقتصادية العالمية اجتماعيا، لم تستغرق طويلا لكي تظهر على الساحة، وتضرب في كل الأرجاء. فبعد أسابيع قليلة من انتشار الأزمة، بدأت المؤسسات والشركات العالمية الكبرى والصغرى، بطرد ما أمكن لها من موظفين، لضغط النفقات. ولأن الأمر يتداعى سريعا، فقد بدأت المؤسسات والشركات العربية ـ أيضا الكبيرة والصغيرة - باستعراض قائمة الموظفين لديها، ليس من أجل زيادة الرواتب، بل من أجل وقف هذه الرواتب. فقد أظهرت الأزمة ـ من زخم ما أظهرت - أن "اقتصاد الطفرة"، متعارض تماما مع "اقتصاد النهضة". والعالم في السنوات العشر الماضية، أحب الأول، ولم يسعى إلى الثاني. لأن آليات الأول، أسهل من معاول الثاني.
والحق، أن العالم كله يشترك في المسؤولية، والأمر ليس حكرا على منطقة محددة. ومن هنا شملت "جباية الضرائب الاجتماعية" الجميع، في الوقت الذي تقوم فيه الحكومات، بخفض الضرائب والفائدة من أجل تحريك اقتصاداتها الراكدة. إذا.. سيواجه العالم العربي غول البطالة في الأشهر القليلة المقبلة بقوة أشد مما هو عليه الآن، من جراء خفض العمالة في عدد كبير من القطاعات، ولا سيما العقارية والمصرفية منها. فإذا كانت مؤسسة بحجم " جينيرال موتورز" الأمريكية العملاقة، بدأت بإغلاق بعض مراكزها، وتسريح نسبة من موظفيها، وكذلك تفعل أخرى كـ "فورد"، فلما الاستغراب في قيام عدد من المؤسسات العربية، بالخطوات نفسها.
وإذا كان هناك في العالم العربي من لا يزال يعتقد بأن الأزمة العالمية لن تصل إلى منطقته. فما عليه سوى انتظار انتشار آثار عمليات التسريح التي بدأت بالفعل في غالبية الدول العربية، بما في ذلك تلك التي تتمتع باقتصادات متماسكة. فالأزمة تنجح في النيل من المجتمع، بعد أن تكون قد نالت أصلا من الأسرة. وهذا ما حدث في الغرب، وسيحدث ـ وإن بصورة أقل ـ في الشرق، سواء كنا محصنين أم لا، علما بأن انخفاض الوقع في الشرق (وأقصد هنا المنطقة العربية)، لا يرتبط بحدة آليات المواجهة، بقدر ارتباطه بحجم الاقتصاد. فعندما يصغر الاقتصاد، تقل مشكلاته.
وعلى الرغم من الحقائق الموجودة على الأرض، فلا تزال هناك شركات ومؤسسات عربية، تعلن بأنها لا تسعى إلى عمليات تسريح نسبة من موظفيها، والواقع أن هذه الشركات لا تزال تبحث عن حلول ما، لا لحماية الموظفين، بل لحماية سمعتها ومكانتها. أية سمعة هذه التي يمكن أن تتوافر لها الحماية في هذا الوضع ؟ فدولة بأكملها كـ "آيسلندا"، لم تستطع الحفاظ على سمعتها الاقتصادية، وأصبحت عرضة "للبيع". ومصرف مثل "ليمان برازرز" الأمريكي، لم يفقد سمعته فحسب، بل فقط كيانه. وكذلك الأمر في حالة مصرف "نورزن روك" البريطاني، وأيضا الحالة نفسها في مؤسسات مالية وعقارية كبرى، كانت تتبختر بأن "الجبل لا تهزه الرياح". فالرياح جاءت بما لا تشتهي الجبال (عذرا من التصرف بشعر المتنبي).
مرة أخرى.. غول شرس أتى بالفعل إلى المؤسسات العربية، لن تقوى معه إلا إلى اعتماد سياسة " شد الحزام"، من خلال سلسلة من التسريحات. وإذا كانت الأزمة واحدة، وردود الفعل عليها واحدة شرقا وغربا، إلا أن هناك اختلافات في آثارها الاجتماعية. فالمؤسسات التي تسرح موظفيها في الغرب، تعرف بأن الحكومة ستتدخل وتفر التأمين الاجتماعي اللازم للمطرودين من وظائفهم. كما أنها تعرف بأن نظام الضمان الاجتماعي يعمل بأعلى طاقاته في مثل هذه الأزمات. ولكن من ناحية الشرق الأمر ليس كذلك. فلا تزال أنظمة التأمينات الاجتماعية غير ناضجة، بل وغير مهيأة لمواجهة أزمة عالمية بهذا المستوى من الرعب. والمشكلة الأكبر أن الأزمة لن تبدأ بالتفكك قبل عامين من الآن. وهذا التقدير ليس من عندي، بل من عند وزير المالية الألماني بير شتاينبورك، الذي تقود بلاده اقتصاد منطقة اليورو الضخمة. فالرجل كان واضحا وصريحا أكثر من هذا، عندما قال: " لن أضلل أحدا. لن أقول إننا نسيطر على الأمور".
يا إلهي.. من يسيطر على الأمور إذا؟!

[email protected]

الأكثر قراءة