البعد السياسي للحوار بين أتباع الأديان

تمثل دعوة خادم الحرمين الشريفين للحوار بين أتباع الأديان مبادرة صادقة جريئة وذكية ومهمة، جاءت في وقت مناسب لتساهم في التعامل مع الموجة التحريضية والعدائية تجاه الإسلام. ولا شك في أن بيان سماحة الإسلام وحقيقته والمشترك بين الأديان السماوية يمثل استراتيجية فعالة لمواجهة هذا التحريض. وهي إلى جانب أنها دعوة أصيلة ومخلصة في منطلقها للحوار وتحقيق أهدافه فإنها تحمل أبعادا سياسية يسعى هذا المقال لإبرازها.
فانطلاق هذه الدعوة من خادم الحرمين الشريفين ومن مكة المكرمة (في حزيران (يونيو) 2008 يعطيها مصداقية وقيمة عالية، ويبرز أتباع الدين الإسلامي كمبادرين ورعاة لفكر "حوار الأديان والحضارات"، في مقابل فكر "صِدَامْ الحضارات". وقد أثمرت هذه الدعوة عن "مؤتمر الحوار بين الأديان" في مدريد في آب (أغسطس) 2008، وتلاه مؤتمر "الأديان والتعاون من أجل السلام"، الذي ينعقد حالياً في نيويورك تحت مظلة الأمم المتحدة في نيويورك. ويُتَوَقَع أن يستمر الحوار وتكون له جولات أخرى، وأن تظهر له نتائج ملموسة تجسد هذا الحوار وما قد يثمر عنه من تعاون. وآمل ألا يغفل البعض بأنه سبق كل ذلك ومهد له المؤتمر الذي عقد في مكة المكرمة للتشاور بين العلماء المسلمين وتأصيل مفهوم "الحوار" والذي نظمته رابطة العالم الإسلامي. ومن الملاحظ أن مسيرة الحوار هذه تتكامل مع منظومة من الخطوات في استراتيجية ذات أبعاد متعددة اتخذتها المملكة للتعامل مع فكر "صِدَامْ الحضارات" وتداعيات واستعداء أحداث أيلول (سبتمبر) 2001 الخطيرة (التي آمل أن تتاح لي الفرصة قريبا للتعليق على ملامح هذه الاستراتيجية).
ولا شك في أن انعقاد هذا المؤتمر الأخير (واللقاءات التي سبقته والتي ستليه) يضيف رصيدا لنا، ويسجل موقفا معتدلا وواضحا، ويشكل مرجعية نحتاج إليها ونستفيد منها مستقبلا، حيث إن المبادرة في إدراك الأرضية المشتركة بين الأديان السماوية والتوعية بها سَتُحَيِّد "الفكر الصِدَامِي" وتضعف مبرراته، وتساهم في التفاهم والتعايش بين أتباع هذه الديانات ويخفف من الارتياب المتبادل بينهم (وخاصة الارتياب تجاه الإسلام والمسلمين). كما أنها ستوضح أن أغلب الاختلاف يعود لأسباب سياسية (يمكن التعاون لحلها أو على الأقل لاحتوائها). فالمشترك بين هذه الديانات كثير، ولا يقتصر على الجوانب والقيم الأخلاقية والاجتماعية والإنسانية فقط، بل يشمل أيضا وجود التطرف والصور النمطية المتبادلة. والتوعية بكل ذلك ستعزز التعاون بين أتباعها لخير الإنسانية.
وهناك اعتبارات مهمة لاستمرار نجاح الحوار وتحقيق أهدافه فمن المهم جداً أن نحرص قدر الإمكان على ضبط "أجندة الحوار" حول جوانب الاتفاق ودواعي التعاون بين أتباع هذه الديانات السماوية، وتجنب طرح القضايا الخلافية فيركز الحوار على القيم المتشابهة، والتحديات المشتركة، وسبل التعاون وتحقيق مستقبل أفضل للعلاقات. وعلينا أن نعي تماما أهمية التحضير والاستعداد القوي لـ "مفاجآت" و"ديناميكية" الحوار، وأن نوفر له الإمكانات والكفاءات العلمية اللازمة ليثمر عن أهدافه، خاصة ما يتعلق بإيجاد خطاب ثقافي وإعلامي ملائم "للداخل" والخارج. وعلينا أن نحذر كذلك من احتمال أن تنعكس النتائج باتجاهات غير مرغوبة إذا كان لدينا قصور في هذه الناحية (لا سمح الله). ولندرك أن للآخرين طرحهم وقضاياهم التي يودون الحوار حولها، وأن هناك دوائر مشبوهة تسعى لتعميق الخلافات وإفشال الحوار. ولندرك أيضا أن هذه المؤتمرات ما هي إلا خطوات طيبة في طريق طويل، ولا بد أن يصاحبها وينتج عنها بناء شبكة فعالة من العلاقات تضمن استمرارية الاتصال والتعاون بين المتخصصين والمؤسسات المعنية بالحوار عبر الدول. والتغيرات الأخيرة في الأجواء السياسية الدولية (نتيجة للأزمة المالية الدولية ولنتائج الانتخابات الأمريكية) تبدو مبشرة ومواتية لتطوير وتوثيق هذا الحوار. وهذه الاعتبارات ليست بخافية عن المسؤولين. وعلينا جميعاً التفاعل الإيجابي مع هذه المبادرات البناءة، من خلال غرس ثقافة الحوار في أنفسنا، وبيننا وبين الآخرين، والعمل وفق شعار "لنثمن الكثير المشترك، ولنتفهم القليل المختلف، ولنتعاون في خير الإنسانية".

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي