أمام لوحتها "تحت ظل الذكريات" تروي الفنانة غيم للزوار، كيف بدأت الحكاية من نخلة وحيدة في فناء بيت جدّتها بهذه الصورة البسيطة، افتتحت الفنانة حضور الذاكرة المحلية في «أسبوع مسك للفنون»، إذ أعادت رسم تلك النخلة التي كانت علامة يعرفها أهل الحي، ونقطة تجمع للأطفال، قبل أن تتحول في عملها الفني إلى رمز لذاكرة جماعية تُستعاد عبر اللون والخط وإيماءات الأهازيج القديمة.
في النسخة التاسعة من أسبوع مسك للفنون الذي ينظمه معهد مسك للفنون في صالة الأمير فيصل بن فهد بالرياض، اكتسب سوق الفن والتصميم حضورًا لافتًا هذا العام فالسوق تحوّل إلى مساحة واسعة تُظهر كيف تشكّل الذاكرة والنشأة وتجارب الحياة البصمة الفنية لكل فنان.
ورغم اختلاف المدارس والاتجاهات، برز خيط مشترك بين عدد من المشاركات أن جذور الفنان—المكان، الطفولة، الملامح الأولى للبيئة—المحرك الأعمق خلف الألوان والملامس والقصص الفنية.
وتوضح الفنانة غيم أن نشأتها في بيئة صحراوية انعكست على اختياراتها اللونية التي تميل إلى الدرجات الترابية والظلال المستمدة من الطبيعة السعودية، مؤكدة أنها لو كانت قد نشأت في أوروبا مثلًا لكانت أعمالها مختلفة تمامًا.
وفي حديثها عن تفاعل الجمهور، تشير إلى أن الارتباط العاطفي هو ما يجعل العمل الفني "يستقر" لدى المشتري. فلوحتها "ورد الطائف" وجدت صدى واسعًا لدى الزوار القادمين من الطائف.
أسلوب يشبهني
في المقابل، ركزت الفنانة وضحى إحدى المشاركات أنها استغرقت وقتا طويلا في البحث عن أسلوب يشبهها قبل أن تكتشف أن أكثر ما يحركها هو الارتباط بالمكان الأول الصحراء، فاللون الترابي كما تصفه ليس مجرد اختيار لوني، بل امتداد لسنوات نشأتها حين عاشت طفولتها في بيئة صحراوية قبل انتقالها إلى المدينة.
هذا العام قدّمت مجموعة سمتها "جذور"، تسترجع فيها ذكريات عائلية ومشاهد من ديرة أقاربها، إضافة إلى لحظات شخصية ترتبط بوالدتها، موضحة أن كثيرا من زوار المعرض يتفاعلون مع اللوحات بشكل عاطفي واضح.
وترى وضحى أن أن التفاعل العاطفي مع الجمهور دلالة على أن العمل الفني يخلق صلة مباشرة مع المتلقي؛ مؤكدة أن اللوحات التي اقتناها الزوار، التي بلغ أعلى سعر بينها نحو 1200 ريال رغم حداثة دخولها للمجال، مضيفة: "لم تُشترَ لقيمتها الجمالية فقط بل لأنها أعادت للمشترين ذكريات مرتبطة بنشأتهم".
وتشير وضحى إلى أن الفن يصبح أكثر صدقًا عندما يستند إلى التجربة الشخصية، وأن العودة المستمرة لطفولتها ليست تكرارًا بقدر ما هي محاولة لفهم جذور الحس الفني الذي تشكّل بداخلها عبر الأسرة والبيئة الأولى.
سوق الاستثمارات الإبداعية
هذا الحضور القائم على الذاكرة والانتماء انعكس على المشهد العام لسوق الفن والتصميم الذي جمع أكثر من 90 فنانًا، إذ يشهد القطاع الإبداعي المحلي دخول عدد متزايد من رواد الأعمال والمبدعين كمستثمرين جدد، بما يواكب توسّع سوق الفن.
تشير بيانات رسمية إلى أن السعودية تستهدف جزءًا من سوق الاستثمارات الإبداعية العالمية البالغة 4.3 تريليون دولار سنويًا، مع طرح فرص استثمارية جديدة في القطاع الفني بعوائد تصل إلى 20٪.
تنامي التعبير الفني
بدورها، ترى ريم السلطان الرئيس التنفيذي لمعهد مسك للفنون، أن نسخة هذا العام استقطبت شريحة أوسع من الفنانين والزوار، مؤكدة أن المنصة وفّرت مساحة للتأمل والتجريب، وأسهمت في دعم المشهد الفني السعودي وربطه بالممارسات العالمية.
تضيف، "بناء بيئة منفتحة يتنامى فيها التعبير الفني يرسخ رؤية المعهد في تكوين مجتمع إبداعي مزدهر، ويفتح المجال أمام الجميع للاستفادة من الفنون ويدعم المشهد الفني المتطور في السعودية وخارجها".
81 مليار ريال للبنية الثقافية
تقول مريم هزازي إن الزوار يتفاعلون مع أعمالها على مستويات مختلفة، فالكثير منهم يجدون فيها انعكاسًا لمشاعرهم أو لأماكن يعرفونها، ما يجعل العلاقة مع الجمهور أكثر حميمية وصدقًا.
وتقول إن التركيز على ما يلمسها شخصيًا، مثل طفولتها في جازان، هو ما جعل أعمالها تصل إلى المشاهدين أكثر من مجرد لوحات للعرض.
وأوضحت مريم أن أغلى لوحة باعتها وصلت قيمتها إلى 8 آلاف ريال كانت من الأعمال المرتبطة بمشاعر شخصية وتجربة فنية خاصة، مشيرة إلى أن هذا النوع من الأعمال يلقى اهتمامًا كبيرًا من المقتنين.
تجاوزت الاستثمارات العامة والخاصة في البنية التحتية الثقافية 81 مليار ريال، وهو أكبر حجم استثمار في تاريخ المملكة في هذا المجال، مع إسهام هذا القطاع بنحو 3٪ من الناتج المحلي تقريبًا.
ووصل رصيد الاستثمار الأجنبي المباشر في قطاع الفنون والترفيه والاستجمام، إلى نحو 1.8 مليار ريال بحلول نهاية 2024.
وشهد مؤتمر الاستثمار الثقافي مؤخرًا توقيع 89 اتفاقية استثمارية بقيمة تقارب 5 مليارات ريال، ما يعكس تزايد الصفقات والفرص في القطاع، ويؤكد اهتمام المملكة بتحويل الفنون إلى عنصر اقتصادي واستثماري داعم للنمو الثقافي والإبداعي.