الطائرة مكتبه .. ولا حدود تفصله عن هموم أمته

الطائرة مكتبه .. ولا حدود تفصله عن هموم أمته
الطائرة مكتبه .. ولا حدود تفصله عن هموم أمته

"لشكره على أي حال، ولو أن المبالغ في المديح كالذي يذم" هكذا علق سعود الفيصل عن رأيه في أحد المقالات التي كتبت في شخصه وفقا لشهادة الوزير المقرب نزار مدني. وفي هذا التعليق العابر تلخيص لحياة كاملة قضاها الراحل في سباق طويل لا حدود سياسية فيه لخدمة وطنه وأمته. فهو الدبلوماسي المهذب الذي يرى الشكر أمرا واجبا تجاه من يتفق معه ومن لا يتفق، وهو السياسي المحنك الذي يدرك ما بين السطور وخلفها. وهو سريع البديهة الذي يستطيع أن يقلب الموقف لمصلحته في لحظات. فبعد حضوره أحد المؤتمرات، متحاملا على نفسه، بخطوات متعبة، مازح الصحافيين، فور دخوله القاعة، "من يسابقني؟".

###وزيرا بعد ملك

على خطى كثير من قادة وزعماء العالم يباشر الفيصل زمام الأمور السياسية والدبلوماسية للخارجية السعودية محملا بكثير من الخبرة الاقتصادية خلفا لوالده الملك الذي جمع بين الخارجية والحكم. وممثلا لدولة من أقوى الدول اقتصاديا في العالم والمصنفة من ضمن العشرين الأقوى دوليا. فهو القادم من خلفية اقتصادية إذ يحمل شهادة جامعة برنستون في ولاية نيوجيرسي في الولايات المتحدة عام 1963 كما التحق بوزارة البترول والثروة المعدنية حيث عمل مستشارا اقتصاديا لها وعضوا في لجنة التنسيق العليا في الوزارة، وانتقل بعدها إلى المؤسسة العامة للبترول والمعادن ثم وكيلا لوزارة البترول والثروة المعدني. وفي عام 1975 صدر مرسوم ملكي بتعيينه وزيرا للخارجية بعد شغور المنصب بوفاة والده الملك فيصل بن عبدالعزيز الذي كان وزيرا للخارجية وهو ملك على البلاد. هذا الترابط الاقتصادي السياسي هو ما تعلمه قبلا على يد والده الملك فيصل صاحب الموقف السياسي الاقتصادي الشهير عالميا حين لوح ـ يرحمه الله ـ بقوة الاقتصاد في وجه التعنت الأمريكي الغربي حيال قضايا العرب. ليجتمع للراحل سعود الفيصل كثير من الصفات التربوية والتعليمية تمهيدا لما سيكلف به من أعباء استمرت 50 عاما خدمة لخمسة ملوك بدءا من عام 1975 وحتى عام 2015 حين ترجل بنفسه وبطلبه عن كرسي الوزارة الذي لم يحدث أن جلس عليه بشكل متواصل، نظرا لتنقله بين عواصم العالم سفيرا ومنافحا عن قضايا وطنه وأمتيه العربية والإسلامية.

###راحته عمل

أدرك الفيصل منذ بدايات عمله أن علاقته بالوقت هي العلاقة ذاتها بينه وبين السياسة فإن لم تسبقه سبقك لذلك فإن مكتبه في الوزارة لم يكن إلا محطة من المحطات التي ما يلبث أن يعود إليها الفيصل لترتيب أموره ثم يرحل مرة أخرى إلى وجهة أبعد أو أقرب، لا يهم، طالما المهم العمل وخدمة البلد. فكانت الطائرة هي ما يمكن اعتباره المكتب الأكثر ملازمة لسعود الفيصل في حياته حتى إن مرافقيه يؤكدون أن الطائرة لم تكن فرصة للاسترخاء أو الراحة على غرار كثير من المسؤولين تمهيدا لأعمالهم ولقاءاتهم القادمة. بل كانت بالنسبة للفيصل مقرا لمراجعة الملفات وللإعداد للاجتماعات القادمة ولم يكن نصيبه من النوم فيها حتى في الرحلات الطويلة يتعدى ساعتين كحد أقصى.
#2#
فكان أن تحامل على نفسه وعلى مرضه فيما بعد بشهادة المقربين والبعيدين الذي أدركوا اعتلال صحته الجسمانية في الفترات الأخيرة ومع ذلك آثر مواصلة العمل وتحدى المرض بشجاعة وعزم قل أن يوجدا لكثيرين. فلم تفارقه الابتسامة وسرعة البديهة في كثير من المواقف أقربها تشبيهه لسوء وضعه الصحي أخيرا بحال العرب، في إسقاط مؤثر على أوضاع الخريطة العربية التي تنحى نحو التفكك والتشرذم لأسباب كثيرة أدركها وحذر منها الفيصل منذ عام 2003 حين قال كلمته الشهيرة محذرا من رؤية أمريكا وأوروبا لحال العراق الذي ما زلنا إلى هذه اللحظة نعاني تبعات هذا التصرف الأرعن سياسيا.

###مواقف للتاريخ

إذ إنه وفي فترة الحرب على العراق عام 2003 كان سعود الفيصل يعقد ما يعادل مؤتمرا صحافيا كل أسبوع، إدراكا منه خطورة الموقف وتبعاته - يرحمه الله - وكان هذا المؤتمر بمنزلة المنجم الغني معلوماتيا وسياسيا. يذكر أن الفيصل حينها كان يصرح مرارا وتكرارا بأن "تحرير العراق من الخارج أمر مستحيل وله عواقب وخيمة" واصفا الموقفين الأمريكي والأوروبي حيال العراق وتخوفه منهما ببلاغة أدبية وسياسية قائلا: "أمريكا مع قطع الرأس بالسيف، وأوروبا مع الخنق ببطء"، كان مهتما لأمر العراق ومستقبله بالقدر ذاته الذي اهتم فيه لأمر الكويت وشعبها. ما دعا أحد أعضاء الكونجرس بعد تأكد وقوع أمريكا في وحل العراق إلى القول: لو سمع بوش كلام سعود الفيصل كان سيغنيه عن جميع مستشاريه في الشرق الأوسط.

موقفه في 2003 لم ينفصل عن مواقفه بعد ذلك وحتى يوم وفاته ما أثر في أحد مستشاري الرئيس بوتين ليعبر عن ذلك بإجلاله لـ "صدق" هذا الرجل رغم كونه وزير خارجية. في تلميح إلى أن وزراء الخارجية يحق لهم ما لا يحق لغيرهم من إخفاء الحقائق والتباين في المواقف. ولكن هذا لم يكن ديدن الفيصل بشهادة الأحداث والتاريخ حتى أمام كلمة روسيا نفسها في اجتماع القادة العرب في القمة العربية التي عقدت في مصر قبل أشهر. ليرتجل الفيصل بنفسه متحاملا على تعبه ومرضه كلمة وصفت بالمتكاملة سياسيا ودبلوماسيا وغاية في الوضوح والصرامة تجاه ما فعلته روسيا وما يجب أن تفعله حتى لا تدعي مرة أخرى أنها تبحث عن حل الأزمة السورية بينما هي أساسا جزء من المشكلة.

###قضية الفيصل

مواقف نبيلة وحازمة سجلها التاريخ لسعود الفيصل وعلى رأسها يأتي موقفه من القضية العربية الأساس. القضية الفلسطينية التي لم تغب عن اجتماعات الفيصل وأجنداته التي لطالما اعتبرها قضيته الأساسية حتى لو لم تكن من أولويات هذا اللقاء بالنسبة للآخرين. ليقول عنه "كولن باول" وزير الخارجية الأمريكي وفقا لتصريحات غربية فيما يتعلق بهذه القضية تحديدا وقوة حضور الفيصل وتأثيره فيها: "سعود الفيصل يعادل اللوبي الإسرائيلي بل يعتبر فريق ضغط وحده".

كما سبق أن أشاد رفيق العمل السياسي والعروبي عمرو موسى في لقاء صحافي إثر ترجل الفيصل عن قيادة الخارجية السعودية بمواقف الفيصل خصوصا موقفه من القضية الفلسطينية وقضية القدس، وعمله الدائم من أجل المصلحة العربية المشتركة، مؤكدا تميزه في قيادة العمل العربي المشترك في أكثر من مجال. فهو، وفقا لموسى، مدرسة الدبلوماسية العاقلة والآراء الرصينة القوية، قويا حين يحتاج الموقف إلى قوة، وإنسانا حين يحتاج الموقف إلى إنسان، ودبلوماسيا حين يحتاج الموقف إلى دبلوماسي، وخبيرا إذا احتاج الأمر إلى رأي خبير. ويختم الأمين العام الأسبق لجامعة الدول العربية عمرو موسى: "لو كان لدينا مثله ألف عربي لكنا اليوم في وضع أفضل كثيرا".

###شعبية جارفة

يرحل الفيصل وقد ترك ما لا يتركه إلا قلة من السياسيين ووزراء الخارجية على وجه التحديد حول العالم. فشعبيته ومحبة الناس له من الخاصة والعامة تشهد عليها مواقع التواصل منذ أن أعلن ترجله عن المنصب، وفي كثير من ظروف مرضه التي تكررت أخيرا. وتشهد عليه هذه المحبة العارمة بعد أن شهدت عليه مواقفه السياسية، ليترك رحيله أثرا بالغا في نفوس محبيه وقدوة طيبة لمن أراد من السياسيين أن يحذو حذوه، صدقا وإخلاصا وعملا، فالسياسة مع الفيصل، بكل تقلباتها وأحوالها أثبتت أنها لا تقف عائقا أمام محبة الناس وتقديرهم. ليظل سعود الفيصل مدرسة في التهذيب الدبلوماسي والحنكة السياسية قبل وفاته وبعد وفاته ــ رحمه الله رحمة واسعة.

الأكثر قراءة