الغربة

الغربة

[email protected] تعد الغربة أمرا نسبيا محضا، فهناك من يستشعر الغربة ما إن يفارق حارته، وهناك من يرحل إلى قارة أخرى ويشعر وكأنه في بيته، وهناك من يستشعر هبوب الغربة إذا جّن عليه الليل بعيدا عن مرابع أهله وعشيرته، وهناك من يستشعرها إبّان الحراك البشري أثناء النهار وفي زحمة الناس. وعليه فهناك اختلاف يرجع ربما لاختلاف الفروق الفردية التي يسببها اختلاف أطر التنشئة الاجتماعية وأساليبها ونمط العيش ونسبة الذكاء والنضج الانفعالي وترتيب الفرد في الأسرة وربما أيضا تلعب العوامل الوراثية دورا مهما فيها.. وغيرها. وهناك نوع يمثل – في تقديري- أعتى أنواع الغربة، وهو "الاغتراب النفسي"، بحيث يستشعر المرء أنه غريب وهو بين بني جلدته وفي وطنه الأصلي وحتى وهو في ذات الحي الذي شهد طفولته ومراتع صباه. فحين يقول الشاعر: والله إني بوسط الناس كني خلاوي من يلوم المفارق عقب فرقا خويه فهو يقرر أنه محاط بناس وأهل، لكنه يستشعر في أعماقه "الغربة" فعبّر عنها بمفردة "خلاوي" أي وحيدا، لا يحس – نفسيا- بمن حوله، ثم أردف في الشطر الثاني من البيت تبرير ذلك الإحساس المتمثل في فراق الحبيب. وهذا الشاعر الذي عالج أحاسيس "الاغتراب" بتسلية خاطره عن كل ما يدور فيه من تراكم رؤى تؤرقه و تتعلق بالخل فيقول: غريب الدار ومناي التسلي أسلي خاطري عن حب خلي إن المصابين بهذا الإحساس يميلون في الغالب إلى العزلة، ويتوقون إلى السباحة في فضاءاتهم الذاتية غارقين في هواياتهم الخاصة، كما يلجأون إلى أحلام اليقظة، التي تمّثل – بالنسبة إليهم- بر أمان، يهرعون إلى هذه الحيل النفسية كلما لسعّتهم ألسنة لهيب الواقع المحرقة، ويدركون الواقع العياني على أنه قاس وظالم وأن الحراك الاجتماعي غير عادل وأنهم غير مفهومين من قبل الآخر، وسعادتهم تكمن في اجترار الماضي والعيش في تخيلات تساعدهم على التعايش "فيزيقيا" مع ركب الواقع. ونلحظ في موروثنا الأدبي العديد من القصائد التي تتحدث عن "السفر" و"الغربة" و"الاغتراب"، ولا شك أن كل شاعر يتناول هذه القضايا من زاوية تحكمها العوامل السابقة الذكر المرتبطة بالفروق الفردية، وبعض الشعراء يركز على معاناته النفسية أثناء غربته أو اغترابه، ومنهم من يركز على مميزات الاغتراب والغربة كعوامل محفزة لاكتشاف الكون والذات.
إنشرها

أضف تعليق