التجربة السعودية تثمر استصلاحا في «توشكى المصرية»

التجربة السعودية تثمر استصلاحا في «توشكى المصرية»
التجربة السعودية تثمر استصلاحا في «توشكى المصرية»
التجربة السعودية تثمر استصلاحا في «توشكى المصرية»
التجربة السعودية تثمر استصلاحا في «توشكى المصرية»
التجربة السعودية تثمر استصلاحا في «توشكى المصرية»

داخل قرية مصرية صغيرة يطلق عليها «أبو سمبل» في قلب صحراء مصر الجنوبية ينشغل عبده في تلبية طلبات السياح الصينيين من الهدايا التراثية الصغيرة التي يغلب عليها الشكل الفرعوني، بينما يصل ابنه البكر علي نهاية الأسبوع من العمل في مشروع زراعي جديد. يبدو الابن سعيدا للغاية بالعمل الجديد على الرغم من معاناته في قيادة المعدات الثقيلة التي لم يشاهد أغلبها من قبل. علي هو أحد أبناء القرية الذين فتحت لهم الاستثمارات الجديدة في القرية فرصة عمل في هذه المنطقة الحارة. صحيح أن المشاريع في بدايتها الآن، لكن العمال والمهندسين على حد سواء موعودون بسكن مناسب داخل المشاريع، ومدارس، ومستوصفات، ومميزات إضافية أخرى فور البداية الفعلية.
مطارها الصغير، الذي خصص على ما يبدو لمهمات سياحية، يعبر عن بساطتها، ورجل الأمن الذي يقف إلى جوار البوابة التي دلفنا منها تتدفق من وجهه بساطة أبناء الصعيد. على شاطئ بحيرتها يربض معبدها الشهير الذي أغرقته مياه بحيرة ناصر حيث تم نقله إلى أعلى في عملية أبهرت علماء الآثار في العالم. القرية السياحية الحارة في مثل هذا الوقت يمكن أن تسجل خلال الفترة المقبلة قصة استثمار التجربة الزراعية السعودية التي امتدت إلى 30 عاما في إعادة الحياة لبعض أجزاء العالم العربي، في تحقيق للتكامل الذي ينادي به كثيرون من المؤمنين بأهمية التكتل والتكاتف وبناء سوق عربية مشتركة .. لكن كيف .. إليكم التفاصيل:

قرية وادعة ومطار صغير

قرية أبو سمبل التي لا يتجاوز عدد سكانها ألفي نسمة من النوبيين بسحناتهم السمراء وروحهم السمحة، تحاول رسم مستقبل جديد طالما حلمت به منذ أن سمعت لأول مرة في مطلع التسعينيات الميلادية عن مشروع «توشكى» لشق قنوات مائية من البحيرة التي تجاورها الناتجة عن إنشاء السد العالي في أسوان قبل أكثر من 50 عاما.
كانت الفكرة في التسعينيات تتعلق بتوفير مياه النيل للمستثمرين من خلال شق القنوات بحيث تتحمل الدولة المصرية شق القنوات وإنشاء مضخات عملاقة، وإيصال الكهرباء للمشاريع الزراعية، التي خصصت لها أراضي في توشكى التي تبعد نحو 80 كيلو مترا عن أبو سمبل، لكن النتائج كانت غير فاعلة، بعد أن اصطدم بعض المستثمرين بملوحة الأرض الشديدة، والحاجة إلى شق القنوات داخل المشاريع، مما يقلل من أي فرص النجاح. وهذا الأمر يبدو واقعا على الأرض حتى قبل عدة أيام عندما أعلن المستثمر السعودي سليمان الراجحي نجاحه في استصلاح جزء من الأرض التي تسلمها من الدولة المصرية البالغة مساحتها 25 ألف فدان، لكن يبدو أنها مرحلة طويت ـ كما يقول مسؤول زراعي مصري أثناء حفل إطلاق موسم الحصاد الأول الذي شكل هذه النقلة.

#5#

بين الجوف والنيل

البعض ما زالوا متشككين في تحقيق نتائج إيجابية، على الرغم مما تخرجه حصادات هولندية عملاقة من جوفها وتقذف به أمام عدسات مصوري وسائل الإعلام المصرية والسعوديةمن كميات الشعير. لكن الراجحي الذي يقترب من الثمانين عاما يقول إنه كان واثقا من النجاح ولم يساوره أدنى شك في تحقيقه في أي لحظة. الثقة مصدرها على ما يبدو تجربته الثرية خلال الـ 30 عاما الماضية عندما صنع كيانات زراعية عملاقة في الرياض والقصيم ووادي الدواسر والجوف باقتدار وتميز نادران، متزامنا مع التجربة السعودية الكبيرة في هذا المجال.
سألت الراجحي ونحن في طريقنا إلى المشروع إن كان قد فكر في الخسارة، خاصة إنه يخطط لصرف أكثر من 500 مليون جنيه مصري على مشروعه في توشكى، فضحك وقال: هل تقصد الخسارة المالية؟ قلت بالطبع. فقال: بالنسبة للأمور المادية يدرسها أهل الاختصاص في الشركة (يقصد شركة الراجحي للاستثمار الزراعي التي يرأس مجلس إدارتها نجله الدكتور محمد)، لكني على قناعة تامة بأن علينا دورا ومسؤولية في توفير الغذاء سواء في السعودية أو مصر، وبذل الكثير لتحقيق هذا الهدف. وأشار إلى لوحة وضعت أمامنا فيها الشعار المصري ــ السعودي يلف سنابل قمح كتب تحتها «أمن غذائي».

#4#

غذاء أم مركبة؟

الزراعة - كما يردد الراجحي ــ مصدر خير ورخاء للجميع وفيها بركة وإعالة أسر، ودخول مادية لكثيرين، وهي «ليست عقارا أو سيارة».. ويقول ببساطة: أنت تستطيع أن تستغني عن السيارة وربما المنزل، لكن لن تعيش بدون غذاء. تبدو هذه الفلسفة غريبة ونادرة في الزمن المادي والفكر الاستثماري البحت.
هنا في توشكى لسليمان الراجحي قصة بدأت تنسج خيوطها، غير تجربته في صناعة الدواجن السعودية، أو اختياره الاستثمار في الاستزراع السمكي أو التخصص في الزراعة العضوية، التي هدد خلال عزمه على تطبيقها في شركته «الوطنية» في الجوف بالاستغناء عن أي عامل لا يطبق التوجه الجديد والغريب آنذاك. علما بأن معارضة بعض العاملين لذلك المشروع لأنهم يرون أن استخدام الكيماويات المقننة في الزراعة أمر مهم، وأن المشروع الجديد قابل للفشل في الإصرار عليه. لكن الأيام أثبتت أن تجربة الزراعة العضوية ناجحة بكل المقاييس.
قصة الراجحي الجديدة التي اصطدمت في بدايتها بملوحة الأرض، ستحقق – وفق خبراء في المجال – نقلة نوعية للمنطقة التي باشر الزراعة فيها. والملاحظ أن كثيرين يعتقدون أن الراجحي لم يعارض الشروط التي وضعتها المؤسسة المائية والزراعية المصرية عليها، والتي شددت على تسليمه المشروع على خمس مراحل، بحيث لا يتسلم المرحلة التالية إلا بعد النجاح في المرحلة التي سبقتها. ويبدو الراجحي الذي بدا بزيه السعودي المميز داخل حقول الشعير التي بدأ حصادها واثقا من الحصول على كافة المساحة المخصصة له التي تتجاوز 100 ألف فدان، وهو يقول: الآن.. كل شيء جاهز.. التجربة نجحت وفي بداية الموسم الشتوي سنزع بين 60 إلى 100 رشاش محور. والذي يعرف الخلفيات الزراعية يعرف أن هذه مساحة كبيرة جدا قياسا على أن الرشاش الواحد تبلغ مساحته نحو 60 هكتارا.
الدكتور محمد الراجحي رئيس مجلس إدارة الشركة الذي يسير على خطى والده، ويبدو أنه أخذ منه الكثير يلفت إلى أن فكرة الاستثمار في مصر دفعتها مبادرة خادم الحرمين الشريفين للاستثمار الزراعي الخارجي، مبينا أن هذه المبادرة تستهدف توفير الغذاء سواء داخليا أو خارجيا.

#2#

مرحلة حرجة

سألت الدكتور خالد الملاحي وهو الرئيس التنفيذي للشركة عن الصعوبة التي واجهت المشروع فبتسم وقال: هل تعرف أننا كدنا نغادر هذا المكان قبل عدة أشهر! كدنا نقرر الرحيل بعد أن اكتشفنا أن نسبة الملوحة في التربة عالية جدا ولا تسمح بأي زراعة، على الرغم من الدراسات التي أجريناها والزيارات التي قمنا بها لمشاريع سبقتنا في هذا المجال. لكن إصرار الشيخ سليمان الراجحي على البقاء حقق نتائجه. فيما بعد عرفت أن المشروع كان مهددا بالفشل فعلا لأن الملوحة ستقف حجر عثرة، ولن يكون الأمر سهلا بتشغيل المشروع واستقدام المعدات وحفر وشق القنوات دون التأكد من صلاحية الأرض للزراعة بشكل مرض، فقد تمنع بعض القائمين على المشروع وأبلغوا سليمان الراجحي بالأمر .. لكنه أكد المضي قدما وانتظار النتائج فيما بعد من خلال الزراعة وقياس معدلات الإنتاج. واللافت أن معدل الإنتاج بلغ 6.8 طن/ للهكتار، وهو رقم كما قال لي بابكر جيد قياسا على الظروف التي واجهت المشروع، ولأن الراجحي يخطط للقفز إلى 8 أو 9 أطنان للهكتار الواحد. في الحقيقة أن الأمر لا يسمى زراعة بمعناها التقليدي فهو استصلاح جديد لأرض عانت ندرة الأمطار وانتشار الملوحة وفقا للبروفيسور أسامة بشور الذي استعانت به الشركة لمعالجة قضية التربة حيث كان يشرح لي هذه الجزئية طوال الرحلة من القاهرة حتى العودة إليها.
بشور وهو سوري الأصل مقيم في بيروت يقول إن أكبر المكاسب التي حققتها السعودية خلال الـ 30 عاما الماضية من تجربتها الزراعية هي تراكم الخبرات لدى العاملين من القطاع، وبدأ يعدد السعوديين المجيدين في هذا المجال، مؤكدا أنه يعرفهم واحدا واحدا. تبدو هذه الجزئية مهمة ولافتة، خاصة أن الأكاديميين الذين لم يعملوا في الحقل لا يمكن أن يحققوا نتائج مرجوة ــ وفق تعبير بشور، والخبير العربي ذو الروح الودودة كان قد عمل في السعودية مستشارا لوزارة الزراعة في بداية الثمانينيات أثناء الاتجاه لزراعة القمح.

#3#

نصيحة موّدع

الدكتور سعد خليل وهو مسؤول حكومي في وزارة الزراعة سابقا ويعمل الآن في شركات الراجحي نائبا للرئيس التنفيذي يقول إن المشروع مر بفترات صعبة.. درجة الحرارة.. الرمال.. صعوبة المكان.. نقص الخدمات.. كادت تدفعنا إلى اليأس لو الخبرة المتراكمة لدى القادم الجديد والتحدي الكبير الذي يعيشه على الدوام. خليل كشف أنه وجه نصيحته الأخيرة للمهندس عبد الوهاب عبد القادر بابكر مدير الإنتاج الزراعي عندما قررت الشركة نقله إلى توشكى من أحد مشاريعها في السعودية.. وقال له ــ كما يروي «اصبر يا أبا أحمد.. الآمال معقودة عليك.. والفرج قريب». يقول خليل إنني قلتها له للتخفيف من صدمة القرار الذي نقله لمكان يراه للمرة الأولى.. ولا يعرف متى وأين ستذهب به الأقدار. لكن ــ والحديث لخليل ــ النتائج جاءت مبشرة، وسجل الإنتاج رقما جيدا، فعادت لهذا السوداني الجميل ابتسامته التي غابت وسط غابة التقارير وهدير المعدات الزراعية.

منفذ حدودي

داخل قاعة الاحتفال المبسط التي تبودلت فيها الكلمات الترحيبية، لم يكن هناك بد للصحافيين المصريين الذين يمثلون طيفا من الإعلام المصري بكل توجهاته من التحلق حول «عراب» هذا العمل اللافت سليمان الراجحي الذي أجاب بسجيته عن تساؤلات كثيرة من بينها: استثماراته في السودان أيضا، والذي أطلق قبل أسابيع موسم حصاد مماثل في مشروعه الكفاءة الذي قال إنه «ثمرة تضافر الجهود بين القطاعين العام والخاص في السعودية والسودان، حيث تبلغ مساحة المشروع 50 ألف فدان على مرحلتين، تم الانتهاء من استصلاح المرحلة الأولى، وتركيب وتشغيل 100 رشاش محوري، مساحة كل محور 150 فداناً».
قال لي زميلي عبد الله الحصان ونحن في طريق عودتنا إلى محافظة أسوان الجميلة: إن منفذا حدوديا سيدشن في أبو سمبل قريبا بين مصر والسودان، كان يقولها وهو يشير إلى أن سليمان الراجحي ربما كان عاملا مشتركا بين الطرفين، وأن ذلك سيسهل عليه السفر والتنقل بين استثماراته.

تكامل عربي

غادرنا توشكى، وفيها 300 عامل ومهندس وعشرات المعدات والآلات، وهي مرشحة لرفع العدد لأكثر من خمسة آلاف نسمة.. وقريبا كما يقول القائمون على المشروع سيتم بناء وحدات سكنية ومدرسة ومستوصف داخل المشروع، كما ستكتمل شبكة الكهرباء في غضون شهر ونصف الشهر، وسيتم استكمال شق أربع قنوات ري داخل المشروع. ترى هل سيحقق التكامل العربي أهدافه.. وهل يدفع ذلك آخرين إلى اقتفاء أثر المستثمر السعودي .. الأيام ستثبت ذلك أو تنفيه.

الأكثر قراءة