تأنيث الاقتصاد .. ثم ماذا بعد؟

تغلغل العامل الاقتصادي في حياة المجتمعات الإنسانية يوماً بعد يوم حتى أصبح اليوم المحرك الأول للحراك الاجتماعي العالمي في جميع تجلياته، ولم تعد تنطلي على الأفراد بمختلف مستويات وعيهم الحيل التي يحاول الباحثون عن طريقها تحقيق مكاسب مادية أو اقتصادية بأي دعوى كانت! مع تحفّظي على وجهة النظر الأخيرة التي لا تزال معرضةً للاختراق من قبل بعض الفئات كما سآتي على ذكره في ثنايا هذا المقال. فحوى القضية برمتها هنا أن عصرنا الراهن خاضعٌ من رأسه إلى أخمص قدميه لديالكتيك اقتصادي نفعي بكل ما تعنيه الكلمة؛ فمن ذا الذي يستطيع إنكار أن حياة الإنسان المعاصر في جميع أرجاء الأرض قد انغمست تماماً في دائرة الاقتصاد؟ تلك الدائرة التي سخّرت دأبه اللحظي للسعي خلف تحسين وتعزيز رصيده المادي، وتوظيف جميع طاقاته وأفكاره وقدراته في سبيل تحقيق هذا الهدف، ولم يشعر هذا الإنسان, ويبدو أنه لن يشعر في المنظور القريب, بهذا التحول الرهيب الذي طغى عليه إلى حدٍّ تفسخت فيه علاقاته الإنسانية من أغلب الأبعاد الأخلاقية لتحل محلها الأبعاد النفعية المادية!
ذاك هو الاقتصاد، وذاك هو إنسان الألفية الثالثة، مفارقة غريبة أن أصبح الثاني مسخراً لخدمة أغراض الأول، رغم أن حتى النظرية الاقتصادية انبثقت بدايةً لعكس ذلك تماماً! وقبل أن نتوسع في إيضاح مفهوم "تأنيث الاقتصاد" دعونا نتذكر معضلة قديمة واجهتها البنوك في حينٍ من الدهر قد مضى على مجتمعنا المحلي، حينما قوبلت كثيرٍ من منتجاتها بكثيرٍ من الريبة والرفض أحياناً كثيرة، لعل من أبرز أمثلتها التسهيلات الائتمانية سواءً على صورة قروض مالية أو بواسطة البطاقات الائتمانية وغيرها من أنواع التسهيلات الائتمانية ذات الطابع التجاري، وانسدت في ذلك الزمن الغابر أغلب نوافذ الفرص أمام البنوك، الذي جعلها تصدّر الأموال والمدخرات المحلية إلى البنوك الأجنبية، ولم تبدأ البنوك بالخروج من ذلك النفق المظلم إلا بانفتاح نافذة الأمل من خلال إضفاء "الشرعية" على جميع تلك المعاملات البنكية! وتم ذلك في ظل بعض الاجتهادات الصادرة عما سُمّي "الاقتصاد الإسلامي" الذي يعني النظام أو السلوك الإسلامي المنبثق من العقيدة الإسلامية والأخلاق الإسلامية العامة التي تحكم سلوك المسلم في الحياة كلها, نحو استخدام الموارد المادية في إشباع الحاجات الإنسانية. وتوسّعت فيما بعد تلك البنوك في تدشين منتجاتها المتوافقة في صبغتها مع الشريعة الإسلامية، التي كان من أشهرها المرابحة للأمر بالشراء، والمضاربة بأنواعها، والتأجير مع وعد التملك، والاستصناع، وغيرها من المنتجات الأخرى مثل التورّق الذي ظهر أخيرا بحيث يسهل الحصول على السيولة النقدية بسرعةٍ وسهولة دون خسارة كبيرة عند بيع السلعة، وقد تطرّقت إلى هذا الموضوع قبل أكثر من عام ونصف، وذكرت أن هذا الانفراج في أزمة البنوك قد حمل معه "فخاخ" يجب الحذر من الوقوع فيها، وقد وقع المحذور واختلط الحابل بالنابل، وأصبحت عبارة "متوافق مع الشريعة" علامة تسويقية أشبه بعبارة "سمك مذبوح حسب الشريعة الإسلامية"!
اليوم نحن أمام أمرٌ جديد؛ إنه "تأنيث الاقتصاد" الذي يندرج تحته منح مزيد من الفرص التجارية والصناعية لرساميل "سيدات الأعمال السعوديات"، والتي وصلت فيها الأرقام المبالغة إلى أن فاقت 150 مليار ريال، وصوّرتها على أنها حبيسة البنوك لشحّ الفرص الاستثمارية أمامها! وبالرغم من صحّة وجود هذه المعضلة أمام جزءٍ من "سيدات الأعمال السعوديات"، إلا أن تضخيم المشكلة بالصورة الراهنة الآن أفضى إلى اختراق كثير ممن لديهن رساميل وغير مؤهلات لإدارتها لاحتلال مواقع من هن أحق بها من سيدات الأعمال الأكفأ إدارةً وخبرة، كما نتج عن هذا التضخيم الذي تم في ظلاله الداكنة تأنيث الاقتصاد، أن تلك المشاريع غير المجدية اقتصادياً والتي تمثل عبئاً على الاقتصاد الوطني، وضعت أمام مراجعة ومراقبة وضعها جداراً سميكاً يُمنع الاقتراب منه، طغت معها صورة مشوهة لعمل تلك المشاريع النسائية، فُسّرت أسباب فشلها بعدم وجود الدعم التمويلي اللازم، والرعاية التحفيزية المتميزة لمثل المشاريع العائدة لسيدات الأعمال، مع إخفاءٍ متعمد أو حتى إنكارٍ للقصور الحقيقي في قدرات وكفاءات مديرات ومالكات تلك المشاريع من سيدات الأعمال، تشكّل مع استمرار هذه الصورة المشوهة وغير الحقيقية مفهوم "الاقتصاد المؤنث"، الذي بدوره منع من تجاوز "خطوطه الحمراء" لبحث أو دراسة حقيقة هذه المشاريع "الكسولة" والجدوى الاقتصادية منها؛ كما أضاع الفرص الحقيقية والمجدية اقتصادياً على المشاريع النسائية الجادة، وحرمانها بالتالي من المساهمة الفعلية في الدفع بعجلة النمو والتنمية الاقتصادية.
جانبٌ آخر من هذا الاقتصاد الجديد امتد إلى مزاحمة الباحثين عن فرص العمل في القطاع الخاص تحديداً، والحديث هنا مرتبط بالفرص الوظيفية التي يتطلب إشغالها بذكور، وعلى الرغم من الاعتراض الذي سأقابله في هذه القضية الشديدة الحساسية، إلا أن الأولويات الاجتماعية المعقدة لدينا تفرض بالضرورة أن نفكر ألف مرة قبل الإقدام على الرضوخ لوجهات النظر المنبعثة من مفكرات هذا الاقتصاد المؤنث!
إن إغفال مراجعة ونقد مثل تلك المفاهيم المغلوطة، وعدم وضع المعايير المنهجية والمهنية الدقيقة لها خطأٌ ثان، ستترتب عليه كثيرٌ من "الفخاخ" التي سيدفع ثمنها الاقتصاد والمجتمع، وليس بعيداً عن أعيننا ما دفعنا ثمنه غالياً من مدخراتنا وأموالنا لخداع المساهمات الوهمية التي نفذت إلى جيوبنا بدعوى أنها "متوافقة مع الشريعة" في غياب المعايير والأنظمة، وأخشى أن تتكرر تلك المآسي في "حلبات الاقتصاد المؤنث" بنفس النمط من الاستغلال غير المسؤول تحت مظلة "الاقتصاد الإسلامي"، وكيف اخترق هذا المفهوم لافتقاده إلى المعايير الكفيلة بضبطه شرعياً واقتصادياً من قبل الباحثين عن استغلال أموال الأفراد دون وجه حق، فها هنا أُشير أيضاً إلى خطورة ما قد يجرّه من عواقب وخيمة إغفال وضع تلك المشاريع النسائية غير المجدية اقتصادياً تحت مجهر الفحص والدراسة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي