الكرة تجسد أزمة الهوية .. الفوز فرنسي والحفل جزائري

الكرة تجسد أزمة الهوية .. الفوز  فرنسي والحفل جزائري

في الليلة التي هزمت فيها فرنسا إيرلندا في التصفيات المؤهلة إلى نهائيات كأس العالم ـ بمساعدة من يد المهاجم تييري هنري ـ كان شارع الشانزيلزيه مليئاً بالمحتفلين. غير أن ما أذهل متابعي شريط الاحتفالات الصاخبة هو عدم وجود علاقة بين الاحتفالات والفوز الفرنسي.
كان الشارع يعج بأطفال يتحركون بمرح كبير. إنهم أطفال المهاجرين القادمين من الضواحي الذين كانوا يحتفلون بوصول الجزائر إلى نهائيات كأس العالم بعد أن تغلبت على مصر.
كان ذلك تجسيداً شديد الوضوح لأزمة الهوية التي حاقت بفرنسا، حيث أعرب كثيرون عن أصابتهم بالروع كون هؤلاء المواطنين الفرنسيين من الجيل الأول فضلوا علم الجزائر على علم فرنسا ثلاثي الألوان.
الرئيس الفرنسي، نيكولا ساركوزي، قرر معالجة هوية بلاده من خلال إطلاق نقاش عام حول ما يعنيه أن تكون فرنسياً. وسيجري النقاش في قاعات المدن والبلدات عبر البلاد، بما يمنح كل شخص فرصة لأن يكون له رأي مسموع حول الهوية الوطنية.
إنها، كما سبق للرئيس الفرنسي السابق، جاك شيراك، أن قال، مسألة أرض ودم le sol et le sang. وإذا كان الأمر كذلك، فما الذي يعنيه بالنسبة إلى ملايين من المهاجرين، وإلى أطفالهم المولودين في فرنسا، والناطقين بالفرنسية، الذين يرون مستقبلهم هنا، وليس في أي مكان آخر؟
إنها مسألة تحتاج فرنسا إلى حلها. واليوم، فإن واحدا من كل أربعة مواطنين فرنسيين له جد أجنبي، وكثير من هؤلاء جاؤوا من مستعمرات فرنسا القديمة في شمال إفريقيا، ويظل هؤلاء المهاجرون والأجيال المنحدرة منهم الأكثر تعرضاً لأذى البطالة، بل كثيرون منهم غالباً ما يتم نفيهم إلى تجمعات سكنية متردية المستوى في الضواحي، حيث فرصة الاندماج ضعيفة.
غير أن محاولة حل أزمة الهوية ارتدت بصورة سيئة على ساركوزي. ويدّعي خصومه أنها حيلة لتشتيت الانتباه عن نكسات وتراجعات خلال الفترة السابقة لانتخابات الأقاليم في آذار (مارس). ويجادل آخرون بأن النقاش حول الهوية ما هو إلا شيء يتجاوز بقليل محاولة مستترة لتبرير سياسة هجرة متشددة. ولو لم يكن الأمر كذلك، فلماذا طلب ساركوزي من وزير الهجرة إطلاق هذا النقاش؟
لقد انتشر عدم الارتياح في صفوف حزب الرئيس، خصوصا بعد التصويت السويسري على حظر بناء المآذن في المساجد الجديدة. وأظهرت استطلاعات للرأي أن نحو نصف من استطلعت آراؤهم في فرنسا يمكن أن يدعموا خطة مماثلة. وأعلن كريستيان إستروزي، الوزير في الحكومة الفرنسية، وعمدة مدينة نيس الذي طالب في إحدى المناسبات بإعادة عقوبة الإعدام، أن المآذن لن تظهر في سماء مدينته.
وتساءل برلمانيون يناقشون هذا الموضوع في الجمعية الوطنية الفرنسية بقلق الثلاثاء الماضي، ما إذا كان النقاش يمكن أن يعيد إحياء اليمين المتطرف الذي عمل تقليدياً على إشهار سلاح الهوية الوطنية بشدة خلال الحملات الانتخابية السابقة.
إنها فكرة ترعب بعض أبرز أعضاء حزب الرئيس الفرنسي U M P. فقد هاجم رئيس وزراء فرنسا الأسبق، جان بيير رافاران، النقاش على أساس أنه موضوع دعائي شعبوي يفتقر إلى القوة الفكرية. وألقت مارتين أوبري، زعيمة الحزب الاشتراكي المعارض، ما يمكن أن يعتبر واحداً من أفضل خطاباتها في الأسبوع الماضي، حين أدانت الأسلوب الذي طالب الفرنسيين «إما بحب فرنسا، أو بمغادرتها». وقالت: «فرنسا التي نحبها هي فرنسا التي تقول: إذا كنت تحب فرنسا، فعليك أن تبنيها معنا».
شعر ساركوزي الثلاثاء بأنه مجبر على كتابة تعليق على الصفحة الأولى من الصحيفة التي يعشقها المفكرون ـ وهم ناقدوه الأشد شراسة ـ «لوموند»، دافع فيه عن قراره حول الهوية الوطنية. وقال إن التصويت الذي شهدته سويسرا أثبت أنه لا بد من إجراء النقاش. وأضاف: «بدلاً من أن ندين السويسريين مباشرة، علينا أن نحاول فهم ما قصدوا التعبير عنه، وما يشعر به كثير من الناس في أوروبا، بمن فيهم الناس في فرنسا. لا يمكن لأي شيء أن يكون أسوأ من الإنكار».
ربما تكون لدى الرئيس الفرنسي حجة في ذلك، فالإنكار لن يحل المشاكل التي تتعرض لها فرنسا في التكيف مع حقائق وجود سكان ذوي ثقافات متعددة. غير أن النقاش في قاعات المدن والبلدات، لن يحل تلك المشاكل كذلك. ويتساءل باتريك ويل، الأكاديمي ومؤلف كتاب «كيف تكون فرنسياً؟»: «ما نتيجة مثل هذا النقاش، وما الذي تستخلصه فيما يتعلق بالسياسات؟ ذلك هو المكان الذي تبدأ منه المشاكل».
في نهاية المطاف تبدو مبادرة ساركوزي وقد أصابها الدمار. ولو كان النقاش حول معنى المواطنة، بدلاً من مفهوم الهوية المشحون بالعواطف ـ ذلك المفهوم الذي يروق لمن تتركز عيونهم على الماضي بدلاً من المستقبل ـ فقد يتسنى تجنب بعض وجع القلب.

الأكثر قراءة