سيطرة الدولار إلى زوال.. لا شيء يدوم على الإطلاق

إن الهزة التي تعرض لها الدولار أخيرا عقب تسرب إشاعات مفادها أن دول أوبك بصدد دراسة تسعير النفط بعملة أخرى بخلاف الدولار لهي دليل دامغ على أمرين مهمين: الأول وهو الدور الذي يلعبه تسعير النفط وتداوله في الأسواق العالمية بالدولار، وتأثيره الحاسم في استمرار الحياة لتلك العملة. كما أن ما حدث أخيرا يؤكد ما ذكره كثير من الأمريكيين وغيرهم بأن الولايات المتحدة - وبعد إلغاء نظام بريتون وودز عام 1971م - سعت في المقام الأول إلى ضمان تسعير النفط بالدولار لضمان السيادة للعملة الأمريكية، ومن يقل بغير هذا فهو مضلِل. أما الدرس الآخر، فهو أن اهتزاز الدولار على أثر تلك الشائعات لهو دليل على وهن تلك العملة، وأن قوتها في حقيقة الأمر لا تنبع من قوة الاقتصاد الأمريكي بقدر ما تنبع من دعم الآخرين.
لا يمكن لعاقل أن ينكر حقيقة أهمية تسعير أهم سلعة في العالم بعملة معينة فالنفط هو أهم سلعة يتم تداولها عالمياً، وعندما يتقرر تداولها بعملة معينة، فستبادر جميع الدول المستوردة للنفط والمستهلكة له ولمشتقاته بالاحتفاظ بتلك العملة التي تم تنصيبها. لقد تبنت الولايات المتحدة مختلف السياسات والأدوات لضمان أن يكون الدولار هو عملة العالم شبه الوحيدة لتضمن تبعية الاقتصاد العالمي لها، فهذه حقيقة علينا الإقرار بها، حتى لو كانت مرة.
والغريب في الأمر أننا رأينا بأم أعيننا كيف أن الدولار، وفي خضم الأزمة الطاحنة التي تعرض لها الاقتصاد الأمريكي، كان يشهد ارتفاعاً!! ألم تعلمنا النظرية الاقتصادية أن العملة في الاقتصاد الحر تستمد قوتها من قوة الاقتصاد، ومن ثم، فعندما يتعرض الاقتصاد الحر لأزمة كان من الأولى أن تنهار عملته، ولكننا شهدنا أن ما حدث هو العكس تماماً، حيث غرد الدولار وحلق عالياً ولم يتأثر بتلك الأزمة في حين تأثر بإشاعات تحرك دول أوبك لاستبداله؟!! فقد حلق الدولار في ظل الأزمة العالمية ببساطة شديدة لأن الدول المغلوبة على أمرها، والتي طُوِقت أعناقها بهذا الدولار، والتي تستثمر فوائضها بالدولار، أو تلك التي أقرضت الحكومة الأمريكية بمئات المليارات، وجدت أنفسها في وضع لا تحسد عليه، ولم يكن أمامها من خيار سوى دعم هذا الاقتصاد المتداعي وعملته المسيطرة، ولهذا رأينا الدولار يغرد، ضاربا بنظريات الاقتصاد عرض الحائط. هل يستطيع أحد أن يجادل في هذه الحقيقة؟
يا إخواني، ينبغي ألا نكون في دفاعنا عن هذا الوضع الخاطئ أشد حرصاً من الأمريكيين أنفسهم فالأمريكيون أنفسهم يدركون أن هذا الوضع الخاطئ لا يمكن إلا أن ينتهي إلى كوارث حتى لو أفادهم مرحلياً ثم نأتي بعد ذلك ككتاب أو باحثين عرب وندافع باستماتة عن الدولار؟ وربما يكون دفاع بعضنا وليد إقرار منه بهذا الواقع المرير، ولكن هل ينبغي أن نستسلم لهذا الواقع؟ ألم نر دولاً وحكومات تعلنها صريحة ولأول مرة بأن الدولار هو رأس المشكلة. ولهذا أولى بنا أن نعمل بجد لتحرير أنفسنا واقتصادنا، ومن ثم قرارنا الاقتصادي والمالي والنقدي، وهو أمر لا يمكن تحقيقه طالما استكنا وسلمنا بالأمر الواقع، وأعملنا أمثالنا العامية الداعية إلى التخاذل ''إللى تعرفه أحسن من إللي ما تعرفوش''.
فحتى قبل وقوع الأزمة المالية والاقتصادية العالمية، أجريت دراسات من قبل جهات عديدة، حول مستقبل الدولار في ظل ظهور اقتصاديات وكيانات قوية كالاتحاد الأوروبي وعملته والصين وعملتها... إلخ، وخلصت تلك الدراسات إلى نتائج نحن أحوج إلى التعرف عليها وتقييمها وتقييم سياساتنا في ضوئها وليس الاستسلام لواقع مجحف فهل هناك أكثر أو أهم من دائرة الإحصاءات الوطنية الأمريكية National Bureau of Economic Research لنعتمد على دراساته أو توقعاته؟ لقد خلصت هذه المؤسسة الأمريكية، وقبل وقوع الأزمة بثلاثة أعوام إلى نتائج مفادها حلول اليورو محل الدولار تدريجياً خلال الـ 50 عاماً المقبلة.
مع إصداره لأول مرة عام 1999م كان يشكل اليورو فقط 18 في المائة من إجمالي الاحتياطيات الدولية، إلا أنه في عام 2006م أصبح يشكل 25 في المائة من تلك الاحتياطيات، وبعد وقوع الأزمة، من المتصور أن تكون حصته قد نمت بشكل أكبر، كما يتوقع ارتفاع حصته إلى 50 في المائة عام 2018م ثم نحو 80 في المائة عام 2035م، في مقابل تراجع حصة الدولار إلى نحو 18 في المائة عام 2035م. وفي مجال المدفوعات عبر الحدود أصبحت حصة اليورو 39 في المائة من إجمالي المعاملات، مقارنة بنحو 43 في المائة للدولار. لا يمكن توقع حلول اليورو بشكل كامل في الوقت القريب محل الدولار، ولكن ما يمكن استنباطه هو أن الدولار فقد سيطرته وبدأ دوره في التآكل في ظل وجود بدائل كاليورو واليوان، وهي عملات ستفرض نفسها بعد تعاظم قوة دول كالصين والاتحاد الأوروبي خاصة، إذا انضمت بريطانيا إلى السرب وتوقفت عن العزف بشكل منفرد.
إذاً، الاقتصاد العالمي وعلى مدى العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية، لم يكن له من خيار سوى الارتباط بالدولار. ولكن بمرور الوقت، كان لا بد لهذه العملية أو الرحلة أن تتوقف، بعدما ظهرت قوى جديدة في الأفق، وعملات استطاعت أن تثبت جدارتها في مواجهة الدولار. وكانت الأزمة العالمية الراهنة بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير، فما ينبغي لها أن تفضي إلا إلى وقف تلك الرحلة التي قادت الاقتصاد الأمريكي - والعالمي - إلى الانهيار.
فالدولار، في ظل تفاقم الدين العام الأمريكي ووصوله إلى مستويات بالغة الحرج ينتظره مستقبل غائم جداً فالمنتظر أن تشهد تلك العملة انخفاضات غير مسبوقة، ما لم تلح في الأفق عوامل تمنع تحقيق ذلك!! ولنا أن نتخيل تبعات تدني سعر صرف الدولار، الذي ترتبط به عملاتنا من خلال سعر صرف ثابت كما ترتبط به صادراتنا النفطية وغير النفطية التي يتم تسعيرها به. الأمر الآخر هو أن القوى الاقتصادية الأخرى (القديمة والصاعدة وتحديداً الصين وروسيا) لن تستمر على كرسي المتفرج، بل إنها أعلنت مراراً وتكراراً منذ وقوع الأزمة ضرورة تخليص العالم من سيطرة الدولار.
مؤكد أن التحرك العشوائي لمعالجة هذا الوضع لا يمكن أن يفضي إلا إلى كوارث، وربما ينالنا نصيب منها، ولهذا من واجبنا كدول وكمعنيين وباحثين أن ندعم جهود حماية اقتصادنا والاقتصاد العالمي من تلك الاهتزازات. علينا إجراء مزيد من الدراسات بشأن الخيارات والبدائل المتاحة للتعرف على التكلفة والعائد، وأن يتم ذلك بشكل منظم ومدروس وبالتعاون مع الدول الأخرى فإما أن تكون عولمة وحرية اقتصادية حقيقية وإما أن تكون غير ذلك. فإذا أردناها عولمة حقيقية وعادلة علينا معالجة الاختلالات بعلاج أسبابها، والدولار هو أحد أهم تلك الأسباب، والله أعلم.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي