"ميثاق النساء" وجدلية العلاقة بين المرأة والرجل

"ميثاق النساء" وجدلية العلاقة بين المرأة والرجل
"ميثاق النساء" وجدلية العلاقة بين المرأة والرجل
"ميثاق النساء" وجدلية العلاقة بين المرأة والرجل

تجمع الشاعرة حنين الصايغ في باكورة أعمالها الروائية بين الواقع والبعد الفلسفي لدور المرأة في الحياة، وتكتب للمرأة وعنها، وتختار نموذجا قريبا من شخصيتها وبيئتها الاجتماعية والدينية، لتطرح تساؤلات كثيرة عن واقع المرأة في مجتمع منغلق على ذاته، تحكمه سلطة ذكورية، تعود إلى التتشدد سلاحا تواجه فيه تحكمها. تكسر الصايغ في روايتها "ميثاق النساء" الصادرة عن دار الآداب، الصمت الذي يحاصر المرأة، وكأنها تقدم لها ميثاقا يرفض التماهي مع الذكورية أو تبني أفكارها المتسلطة، ميثاقا يجعل علاقتها بذاتها وبمن حولها أكثر حرية وعدلا، حتى الأمومة تقرأها من زاوية مختلفة والحب المحكوم بالحدود الجغرافية والدينية والثقافية.
أمل أبو نمر الشخصية المحورية للرواية التي تنقل عبر مجموعة من الصفحات تجربة فتاة، تعيش في قرية ريفية في محافظة جبل لبنان، تنتمي إلى عائلة فقيرة، تخضع لسلطة الأب القاسية، وخضوع الأم غير المبررة، أمل الشخصية المتمردة والمقيدة، الطموحة والمشاغبة تخرج من عنق الزجاجة بصفقة تعقدها مع سالم أحد أثرياء المنطقة، وتقبل الزواج به مقابل أن يسمح لها بإكمال دراستها في الجامعة الأمريكية في بيروت، وتعيش رحلة من العذاب تعكس فيها شيئا من عذابات والدتها الراضخة، التي لم تنجح في فك التشابه بينهما رغم كل تمتلكه من حرية واندفاع ورغبة في التغيير..
"ميثاق النساء" رواية تسبر أغوار جدلية العلاقة بين المرأة والرجل في مجتمع محافظ ومتزمت، وتبحث عن نقاط قوة على حساب نقاط ضعف كثيرة كانت ولا تزال سببا في تخلي كثير من النساء عن أحلامهن احتراما للأعراف والتقاليد وحفاظا على المعتقد.

شخصية أمل .. الجثة

لا تعد الرواية سيرة ذاتية وإن كان التماهي واضحا بين شخصية الكاتبة حنين الصايغ والشخصية المحورية أمل أبو نمر، خاصة أن شخصية الأخيرة واقعية جدا ومغروسة في بيئة تاريخية ودينية واجتماعية معلنة. تعيش أمل في منزل لا سلطة فيه تعلو سلطة الأب، الملتزم دينيا والعامل في مجال الحدادة، الذي لم يرزق بطفل ذكر، عاش حياته بين زوجته وأربع فتيات، ومارس عليهن سلطته الأبوية التي منحته إياها الأعراف الدينية والتقاليد الاجتماعية بكثير من التزمت. وأمل فتاة طموحة ومتأملة، تدور في رأسها أسئلة كثيرة وتعاني اضطرابات نفسية مزمنة مثل "الوعي الذاتي"، و"متلازمة القلق الوجودي"، و"العقدة الدونية"، وتصارع للبقاء واستعادة وعيها الحقيقي بذاتها من بين براثن النقص والعجز. إنها وليدة أفكار ونظريات ومعتقدات وتراكمات اجتماعية ونفسية ودينية، عاشت صراعا وجوديا، لم تكن حرة حتى مع ذاتها، وهذا ما جعلها تعقد صفقة زواج في سن الـ15 مع ثري من المنطقة يدعى سالم، عاشت معه أياما صعبة وقاسية قبل أن تعرف كيف تروض نفسها لتكون آلة لتنفيذ رغباته الجسدية، مقابل تحقيق ذاتها.
تحمل أمل بعض ملامح الشخصية الوجودية القلقة، فهي مضطربة، تعاني في مراحل من حياتها حالا من الكآبة والاكتئاب، ولعل ما يسم شخصية الراوية شعورها شبه الدائم بالدونية بل شعور بالذنب وعدم استحقاق الحياة والتفكير القاتم وجلد الذات والانطواء. وبعد ولادة طفلتها "رحمة"، تحولت أمل إلى جثة كما تصف نفسها، تعيش مع زوج يمتلك جسدها ولا يمتلكها، وكانت ترفض أن يكون لابنتها مصيرها ومصير والدتها من قبلها.

الأمومة فرصة أو ورطة

يعد البعض الأمومة رسالة مقدسة نادرا ما يتم التطرق إليها على أنها عبء إضافي يثقل كاهل المرأة، لكن الروائية حنين الصايغ وعلى لسان راويتها أمل تجرأت إلى البحث في أبعاد أكثر عمقا لمعنى الأمومة. شعرت أمل خلال رحلتها في البحث عن أمومة ضائعة بأنها فأر تجارب وقع بين أيدي الأطباء، خاصة أنها خضعت إلى محاولتين فاشلتين من الإنجاب المصطنع، قبل أن تحمل طبيعيا، وتحمل أوزار الأمومة وطفلها ما زال جنينا، لم تشعر بالفرح لوجوده وقد اعتذرت منه وعاودها الشعور بالذنب وجلدت نفسها وأنبتها، وعندما علمت أن في أحشائها طفلة راودها القلق، وخافت عليها من علاقة ستربطها برجل لن تحبه لكنها ستكون ملزمة لمشاركته الحياة لأن تقاليدها تفرض عليها ذلك. ما جعلها تطرح سؤالا جوهريا هل الأمومة ورطة أو فرصة؟ وهل تحقق للمرأة النقص الذي تفتقده في حياتها أم أنها ستزيد الأعباء عليها؟

صورة الأم التقليدية

تتماهى أمل مع صورة والدتها نبيلة بشكل واضح في الرواية، صحيح أنها كانت متمردة لكن هاجس أن تتحول كوالدتها إلى أداة يتحكم بها رجل قلق ساورها خاصة بعد أن تحولت إلى أم، وكان رغم شخصيتهما المختلفة تمثل امتدادا لجسد والدتها، وكانت تخشى أن تنسيها الأمومة أنها امرأة، مثلما أنست أمها التي عاشت حياتها تعيسة، جالسة وراء الصاج تخبز الأرغفة لتبيعها وتساعد زوجها على إعالة عائلتها، والى حد كبير كانت أمل وقبل انفصالها تجسد هذه الصورة النمطية للزوجة والأم والمرأة التي يقف حدود طموحها عند سلطة الرجل وما يسمح به وما يمنعه.

ما وراء فلسفة الجدار

تحمل الرواية كثيرا من الأسئلة الوجودية والمعاني الفلسفية، وتضع علامات استفهام حول ارتباط بعض الأشخاص في القيم والمبادئ الاجتماعية ولو كان ذلك على حساب سعادتهم، وهذا ما حل مع "أبو علي" و"أم علي" وهما جدا أمل، وبطلا الفصل الأول من الرواية الذي يحمل عنوان الجدار. أبو علي وفي لحظة غضب عابرة قام بتطليق أم علي، ولأن هناك موانع دينية تمنعه من العودة إليها، ولأنه يتمسك بحبها ويحتاجها في رعاية أولادهما، أقام داخل داره جدارا فاصلا بينهما، كلما غلبه الشوق إليها تنهد من خلف الجدار وهي فعلت المثل، لكنه لم يفكر في العودة إليها من منطلق طائفي بحت، حتى هي عندما مات منعت من أخذ عزائه أو الحزن عليه. هذا الجدار موجود داخل عقلية كل منا، وكم من إنسان كان يختنق ويضيع في أفكار ثابتة غير قابلة للتفكيك والتغيير، وقناعات راسخة في النفوس المحطمة والضعيفة، كم من جدار يفصلنا عن الحياة، عن إنسانية تتمزق داخل الجدران؟!

الرجل: ليس شرا مطلقا

تعلن أمل رفضها للرجل بصورة عامة ولم تحسبه شرا مطلقا، والرجال في حياتها قسوة ونجاة في آن معا، لا تدينهم لكنها تطالب بحرية المرأة وحقها في اتخاذا القرار، وتبرر تصرفاتهم بوصفهم بالضحايا، ضحايا تقاليد اجتماعية متوارثة. عكست أمل صورة الرجل الحنون حين وصفت والدها بعد أن أصبح في الـ70 من عمره، وكيف تحولت قسوته إلى حنية، وتزمته إلى قبول، كذلك سالم، صحيح أنه أفقدها كثيرا من أنوثتها برجولته التقليدية لكنه قدم بعض التضحيات، ويكفي أنه وافق على إكمالها تعليمها. هذا فضلا عن أستاذها خلدون الذي مات قربانا للحب، وصهرها جاد العاشق حتى التخلي، وحامد الكاتب المصري الألماني الذي أحبها وعوضها، الرجل كتلة من نار وماء، وليس شرا مطلقا.