"القاعدة" .. علم التاريخ النفسي حينما يتنبأ بالكارثة

"القاعدة" .. علم التاريخ النفسي حينما يتنبأ بالكارثة
"القاعدة" .. علم التاريخ النفسي حينما يتنبأ بالكارثة
"القاعدة" .. علم التاريخ النفسي حينما يتنبأ بالكارثة

لا يبدو المستقبل البعيد مبشرا للروائيين، ولا سيما ممن يكتبون أدب الخيال العلمي، الذين تنبأوا بكوارث ومصائب، وحملت رواياتهم وقصصهم أزمات تنبئ بنهاية العالم، حتى شبههم البعض بـ"الغربان".
رواية "القاعدة"، أو "الأساس" كما يترجمها أدباء، لإسحق عظيموف خرجت بتنبؤات على درجة عالية من السوداية، التي تعد جزءا من سلسلة تحمل الاسم نفسه، في واحدة من أمهات أدب الخيال العلمي، ومن أهم روايات المؤلف الأمريكي - روسي المولد- عظيموف، وأكثرهم تأثيرا في هذا الأدب في العالم.
احتفى بسلسلته الروائية هذه، النقاد والقراء لما تحويه من بناء عالم متشابك، وأفكار غير مسبوقة، وتفاصيل مذهلة، يرسم فيها مجرتنا في المستقبل البعيد، وحازت جائزة "هوجو" لأفضل سلسلة على الإطلاق في 1966، وترجمت إلى لغات عدة، وبيعت ملايين النسخ منها، وصدرت أخيرا باللغة العربية عن دار كيان في مصر.

الرواية الأقدم .. والأكثر شهرة

كان إسحق عظيموف، أو "أيزاك أزيموف" كما يكتبه البعض، من أكثر الأدباء غزارة في الكتابة، إذ صدر له أكثر من 500 كتاب ورواية، لكن رواية "القاعدة" أهمها، التي ترجمها أحمد صلاح المهدي، وتقع في 345 صفحة.
صدرت الرواية للمرة الأولى في 1951، وتعد أقدم أعمال عظيموف وأكثرها شهرة، كتبها وكان لا يتجاوز الـ21 من عمره، معيدا تعريف الخيال العلمي من خلاله تشابكه السلس بين الحقيقة العلمية والخيال الأدبي، وكان من أوائل من تنبأوا بأن الطاقة الذرية ستحدث ثورة في المجتمع.
السلسلة الروائية الشهيرة تحولت قبل أعوام إلى إنتاج تلفزيوني ضخم، بمسلسل من ثمانية مواسم، يرى نقاد أنه يفتقر إلى الكائنات الفضائية، في ميزة تتيح الاستمتاع بالأحداث التي تثري الخيال، بطلها الإنسان الذي نعرفه، دون أن يتسنى لكاتبها إسحق عظيموف أن يراها على التلفزيون، إذ توفي 1992.

عصور الظلام

لأكثر من 12 ألف عام، حكمت الإمبراطورية المجرية المجرة بأسرها، تحتضن ملايين الكواكب المأهولة، وهناك عالم واحد يدعى "هاري سيلدون" يستخدم علم التاريخ النفسي للتنبؤ بالمستقبل، ليرى احتضار الإمبراطورية المجرية، وعصور من الظلام والجهل ستستمر لـ30 ألف عام في أعقاب انهيار الإمبراطورية.
ولحفظ العلوم البشرية، وتقليص فترة ما بعد الانهيار إلى ألف عام فقط، يجمع هذا العالم خيرة عقول المجرة ليؤسس قاعدة في كوكب مقفر في طرف المجرة البعيد، كوكب تيرمنوس، ووفقا للرواية، سرعان ما تجد القاعدة نفسها محاطة بأعداء أكبر من قدرتها على المواجهة، ممالك بربرية انشقت عن الإمبراطورية المجرية، من ورائهم أخطار وأزمات تهدد "القاعدة" وخطة هاري سيلدون من أجل مستقبل البشرية.
في خيال عظيموف، فإن المستقبل يعد الفرد بالقفز عبر الفضاء، وهي الوسيلة العلمية الوحيدة للسفر بين النجوم، وكذلك الأمر في "ترانتور" مركز الإمبراطورية لمئات الأجيال المتعاقبة، كوكب من أكثر الكواكب المزدحمة بالسكان والمتقدمة صناعيا في المجموعة الشمسية، أكثف وأغنى تكتل بشري قد عرفه البشر، وكل الأراضي في هذا الكوكب كانت مدينة واحدة، كثافته السكانية تتخطى الـ40 مليارا، في كثافة سكانية مكرسة بشكل شبه كامل لاحتياجات إدارة الإمبراطورية، التي تحتوي على كوينتليون إنسان.
وفي خياله أي ضا، أن أساطيل السفن التي يبلغ عددها عشرات الآلاف تجلب بشكل يومي منتجات 20 كوكبا زراعيا إلى موائد الغداء على الكوكب، ما يجعلها عرضة للغزو عن طريق الحصار، بدورهم، جعل الأباطرة يدركون هذه الحقيقة، حتى باتت سياسة الإمبراطورية تنحصر في حماية الشريان الحساس الذي يمد كوكب "ترانتور" بالحياة.

صدمة مشاهدة السماء

في كوكب "ترانتور" عالم عجيب، يعيشه سكانه تحت المعدن، لا يصعدون أبدا إلى السطح لأن ذلك يصيبهم بالتوتر، ولسبب معقول، تخيل أنك ولدت في مقصورة، وترعرعت في ممر، وعملت في حجرة، وقضيت العطلة في غرفة الشمس، فإن الصعود في الهواء الطلق حيث لا يوجد أعلاك شيء سوى السماء قد يصيبك بصدمة عصبية.
عالم التاريخ النفسي أو "سيلدون الغراب" كما يدعى، كنوع من التشبيه لأنه يصر على التنبؤ بكارثة، من خلال معادلات نظرية ورياضية، إذ يعد التاريخ النفسي فرعا من الرياضيات، يتعامل مع ردود فعل التكتلات البشرية للمحفزات الاجتماعية والاقتصادية المحددة، وفقا للموسوعة المجرية، ولكن لم يشغل عالم نفسه بأحداث ستقع بعد ثلاثة قرون؟

مقاومة السقوط

سيلدون، رجل عجوز وأصلع، يعرج، وبعينين زرقاوين تلمعان بذكاء شديد، هكذا يصفه الكاتب، ينخرط في مشروعه وخطته علماء رياضيات، منهم عالم الرياضيات الدكتور جال دونريك، الذي يسعى إلى ألا تكون الكواكب والمجرة أنقاضا في غضون القرون الثلاثة التالية، لكن ذلك مرهون بتدخل عدد كبير من الأشخاص، أو وقت هائل للتغيير وهو ما لا يملكه.
وقد اختارت الإمبراطورية المجرية لـ"سيلدون" النفي مع مجموعة مكونة من 100 ألف شخص إلى كوكب لا تؤثر فيه سرعة الحياة في العاصمة وملهياتها، اسمه "تيرمينوس"، صالح للعيش وغير مأهول، ومن الممكن إعادة تشكيله ليناسب احتياجات العلماء ومقاومة السقوط.
كان هذا المفكر الذكي يعلم في قرارة نفسه ووفقا لمعدلاته الرياضية قرار النفي، فاستعد له منذ عامين ونصف، في ملاذ علمي يضم 20 ألف عائلة، لكن هل تنجح هذه الخطة؟ هذا ما سيكتشفه القارئ لاحقا.

انهيار الأمم

لعل ما يجعل هذه الرواية ناجحة، هو عدم اعتمادها على الفضائيين، أو الأحداث المتوقعة، وتستند في موضوعاتها إلى موضوعات الإرث والقوة، وحق تقرير المصير، ويحاول أن يجيب عن تساؤلات حول المشاركة والانخراط في خطط مستقبلية، قد لا يرى منفذوها نتائجها، لكونها خططا طويلة المدى تستمر لقرون ممتدة، متطرقا إلى التطور العلمي، وقدرته على التحكم بعقول البشر.
وتفيد المصادر بأن بداية السلسلة كانت عبر ثماني قصص قصيرة نشرت في إحدى مجلات الخيال العلمي، وتحمل دلالات ومعاني واسعة، منها ما يتعلق بنشوء الأمم ونهضتها وازدهار ثم انهيارها، الذي تمكن من إيصال رسالته عبر "كون روائي" منفصل، يحمل تاريخا نفسيا ينبئ بالانهيار، في معادلة رياضية معقدة، لكنها تبدو منطقية في تفسيراتها.
حينما صدرت رواية "القاعدة" حققت نجاحا مدويا، تلتها رواية "القاعدة والإمبراطورية"، ثم جزء ثالث حمل اسم "القاعدة الثانية"، تلاها جزء رابع، لكنه جاء متأخرا نحو 30 عاما عقب صدور الرواية الأولى، حمل عنوان "حافة القاعدة"، وأعقبها عظيموف بروايات مكملة لروايته الأشهر والأقدم، نشرت بعد وفاته.

الأكثر قراءة