قصة أدب ينتعش زمن الأزمات

قصة أدب ينتعش زمن الأزمات
قصة أدب ينتعش زمن الأزمات

يقال إن الكتابة والجاسوسية وجهان لعملة واحدة، فالقواسم المشتركة بين الأديب والجاسوس عديدة، رغم ما قد يبدو لكثيرين من بون شاسع بين الحرفتين في بادئ الأمر. فكلتاهما تقوم على التدقيق في تفاصيل قد تبدو للآخرين بلا أهمية تذكر، فالإحاطة والإلمام بالبيئة المحيطة (عالم الرواية أو عالم الجاسوسية) مسألة ضرورة. فضلا عن اشتراكهما معا، أي الكاتب والجاسوس، في الأدوات والوسائل المستخدمة، وكذا في تقمص وظيفة النقل للغير، فكلاهما عين تسرد بحذاقة للآخرين ما تراه على أرض الواقع.
أفلحت ثلة من الأسماء في الانتقال من عالم الجاسوسية إلى رحاب الإبداع الأدبي، مستثمرين في ذلك ما تراكم لديهم من خبرات ومعارف في التجسس، شكلت في مجملها مادة خامة، نسجت وفقها حبكات أعمالهم الرواية والقصصية. وبرع آخرون في المزاوجة بين الحرفتين معا، في الوقت نفسه، فكان بعضهم جواسيس بدوام يومي في أجهزة استخباراتية نشروا رواياتهم بأسماء مستعارة، فيما كتب أدباء تقارير استخباراتية عن دول لمصلحة دولهم، مستغلين صفاتهم كأدباء ومؤلفين.
تصنف الجاسوسية ثاني أقدم مهنة في التاريخ البشري. وحضر التجسس كممارسة لدى الإغريق، مثلما عبرت عن ذلك الإلياذة والأوديسة. كل ذلك لم يشفع للجاسوسية أن تصنع لنفسها صنفا أدبيا مستقلا إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية، رغم دخولها مبكرا عوالم الأدب، فرأي يربطها بقضية الضابط الفرنسي دريفوس أواخر القرن الـ19، ويعد آخرون أن الأمر أقدم من ذلك بكثير، فالبداية كانت، أواخر القرن الـ16، مع الكاتب الإنجليزي كريستوفر مارلو الذي اقتحم بلاطات الدول الأوروبية بصفته الأدبية ليكون عين الملكة اليزابيث، المعزولة داخل أوروبا الكاثوليكية بسبب المذهب البروتستانتي، ضد مؤامرات القوى الخارجية.
حتى بعد حصوله على الاعتراف، يتحفظ تيار من النقاد، ولا سميا الاتجاه الحديث، على وصف "أدب الجواسيس"، ويميزونه عن أدب الجريمة أو "الرواية البوليسية". وسندهم في ذلك أن من يكتب في هذا المجال يفتقد إلى ملكة الخيال والإبداع، فالمادة الخام التي يوظفها في أعمالها عادة ما تكون مستوردة، أي من صنع أجهزة المخابرات، وليست مطلقا من بنات أفكاره. لكون هؤلاء يعتمدون في جل أعمالهم على وقائع وحقائق بأبعاد توثيقية، تقلل من القيمة الفنية للمنتج الأدبي رواية كانت أو قصة.
الاختلاف بشأن نشأة هذا الأدب يقابله إجماع على احتكار البريطانيين له ردحا من الزمن، ما يعزز فرضية ولادته على يدي الأديب كريستوفر مارلو الذي قتل في سن مبكر (29 عاما)، وفي ظروف غامضة رجح مؤرخون أن تكون بسبب إحاطته علما بقضايا وأسرار شخصيات نافذة في البلاط الملكي في لندن. وشاعت في أوساط أدباء الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس ظاهرة الحياة المزدوجة، فالأدب البريطاني حافل بأسماء مبدعين عاشوا حياة جمعت في انسجام وتناغم بين الأدب والجاسوسية.
يعد جون لو كاريه المتربع على عرش أدب الجاسوسية واحدا من هؤلاء، فقد استطاع ديفيد كورنويل، الاسم الحقيقي للكاتب، أن يكتب روايته الأولى "دعوة الموتى" (1961)، ويصنع بطل أعماله "جورج سمايلي"، حين كان عميلا في أجهزة الاستخبارية البريطانية. ونجح في نسج خيوط تجربته الرواية بواقعية أكبر، فشخصياته كائنات بشرية عادية تصيب وتخطئ عكس الغرائبية التي سادت في أعمال كثيرة. لا تزال روايته "حرب المرايا" (1965) أقدر الأعمال على تقريب عوالم الاستخبارات إلى القراء.
ويبقى الكاتب إفان فلمنج، صاحب شعار "إياك وقول لا للمغامرة، بل قل لها نعم دائما، وإلا فإنك ستعيش حياة كئيبة ومملة للغاية"، أحد أشهر هذه الأسماء في القرن الـ20، فمبتكر شخصية الجاسوس البريطاني الشهير جميس بوند، بطل رواياته الـ12 ما بين 1953 و1965، كان عميلا للمخابرات البحرية البريطانية خلال الحرب العالمية الثانية، ما لبثت أن استثمر مغامراته هناك في نسح خيوط أعماله الأدبية.
وكانت شهرة جراهام جرين الأدبية سببا وراء اختياره جاسوسا للمخابرات الحربية البريطانية، اعتمادا على توصية أخته التي كانت تعمل لدى الجهاز نفسه حينها. فالمهنة جعل الرجل في مأمن من أي شكوك في أسفاره التي يبحث فيها عن حكايات لرواياته، بينما الحقيقة أنه بصدد جمع معلومات استخباراتية في رحلاته إلى ليبيريا والمكسيك وهايتي وكوبا وفيتنام... وإن كانت لها ثمار أدبية أيضا من قبيل: "الأمريكي الهادئ" (1955) و"رجلنا في هافانا" (1958). وكانت زيارته إلى سيراليون سببا لإنهاء ازدواجية أعماله، حين وقف على خيانة التاج البريطاني من صديقه ورئيس الوحدة التي يعمل معها، الذي كان عميلا مزدوجا لبريطانيا والاتحاد السوفياتي، فاستقال خشية الشهادة ضده في المحكمة، فضلا عن توثيق ذلك للقراء في رواية "الرجل الثالث" (1985).
كلما اشتد الصراع في العالم انتعش أدب الجاسوسية، فمسرح الأحداث العالمي تربة خصبة لوقائع من شأنها أن تشكل حبكات أعمال روائية. بعد نهاية الحرب الباردة وسقوط جدار برلين وانهيار الحرب الباردة توارى هذا النمط الإبداعي إلى الوراء، ثم ما لبث أن انبعث من جديد بعد أحداث 11 من سبتمبر 2001، وحرب العراق في 2003. وكان ذلك على يدي الروائي الأمريكي أولن ستاينهاور الذي ترك الرواية التاريخية لمصلحة الرواية الجاسوسية، ويعد حاليا واحدا من أبرز أسمائها بلا منازع.
يتوقع أن يعاود هذا الأدب الظهور مجددا نتيجة التوترات في عديد من المناطق في العالم، ولا سميا الحرب الروسية الأوكرانية، وقبلها معركة تكسير العظام المستمرة بين واشنطن وبكين. خاصة أن الرواد الأوائل نجحوا في تطوير الجاسوسية من مجرد قصص للتسلية والترفيه إلى أدب بحمولة سياسية وإنسانية، تسمح بهوامش للحديث يمكن فيها لهؤلاء الأدباء/ الجواسيس كشف ما لا يستطيعون قوله لولا صفحات الرواية.

سمات