ثقافة وفنون

شوقي جلال .. شيخ المترجمين يرحل في صمت

شوقي جلال .. شيخ المترجمين يرحل في صمت

شوقي جلال .. شيخ المترجمين يرحل في صمت

شوقي جلال.

شوقي جلال .. شيخ المترجمين يرحل في صمت

"رحل شوقي جلال في صمت كما ترحل الطيور من شجرة إلى أخرى من دون صوت". بهذه الكلمات نعى القاص المصري الكبير أحمد الخميسي، شيخ المترجمين، شوقي جلال الذي وافته المنية في القاهرة صباح 17 سبتمبر الجاري، بعد مسيرة حافلة بالعطاء والإنجاز تركت بصمتها في الخزانة العربية، ترجمة وتأليفا، فالراحل الذي غادرنا عن عمر يناهز 92 عاما، من جيل القامات المصرية الكبيرة أمثال، غالي شكري وعبدالغفار مكاوي وفؤاد زكريا ويوسف إدريس وشريف حتاتة وآخرين.
لم يكن جلال مجرد مترجم عادي، فالأعوام الـ75 التي أمضاها في خدمة الثقافة العربية، كانت مؤطرة بسؤال التطور الحضاري، فالبحث في أسباب نهضة الأمم قضية إشكالية لازمت الراحل مترجما وكاتبا وناقدا. كما جاء في نعي المركز القومي للترجمة، على لسان مديرته كرمة سامي، بتأكيدها أنه "المثقف النبيل الذي تعامل مع الترجمة، بوصفها مشروعا قوميا، يهدف إلى النهوض بالإنسان المصري، وبالوطن والقومية العربية حاضرا ومستقبلا".
طالما ردد الراحل، في أكثر من مناسبة إعلامية، بأن اهتمامه بالترجمة نابع من "الارتباط برؤية خاصة للمستقبل من خلال الانفتاح على العالم، مرجحا أن يكون حجم ما يترجمه العالم العربي حاليا أقل مما كان يترجم في التسعينيات". فإنتاج مراكز الترجمة المتناثرة في العالم العربي من كتب يسد بعض الفراغ، ولكنه غير كاف مطلقا، وذلك عائد إلى أسلوب الاشتغال، فهذه المؤسسات أشبه بـ"جزر منعزلة تعمل دون تنسيق لرؤية مشتركة".
فضلا عن ذلك، تعد الترجمة بالنسبة إلى الرجل أبرز الأدلة على قدرة أي شعب على التفاعل مع العصر، فعد أن الأمر أكبر من مجرد "نقل معارف فحسب، بل تواصل حر بين الحضارات. ولا يكون هذا التواصل مثمرا إلا حين تفرقنا روح المغامرة الإنسانية التي يزكيها نهم معرفي لاستيعاب إنجازات وفتوحات العلم المرتكز على عبقرية الإنسان من أجل تغيير الواقع بإرادته، تغيير واقعنا الثقافي والبناء الاجتماعي بسبب حاجتنا الملحة إلى ذلك، وبذا تكون بنائين للحضارة عن وعي وإرادة وعقلانية. إننا قد ننقل نصوص النظريات أو المصطلحات، ولكن يظل حديثنا بها رطانا، لأننا لا نستطيع أن ننقل الرأس المبدع ولا حياة وتاريخ الإنتاج الخالق له".
تشرب شوقي جلال العقلانية حتى التخمة، فوضع العلم والعقل في صلب مشروعه الإبداعي، ما جعله في قلب معركة مواجهة مع التقليدانية بمختلف أشكالها، فتعطيل الفعل الحضاري معادل موضوعي لانتعاش الفكر الماضوي وثقافة "من فات قديمه تاه". وبجرأة المثقف المهموم، يكشف واحدة من المفارقات التي عطلت مسار الإقلاع الحضاري، فحن - يقصد هنا العرب، "لا نكف عن الزهو بماضينا العلمي المجيد، لكن في حاضرنا نقاوم العلم أشد المقاومة.. هل من تفسير لهذا التناقض والفصام النكد؟".
واعتبارا لما تفعل الثقافة في حياة ووعي الشعوب، كان النظر في سؤال ماهية الثقافية والقيم السائدة ضرورة ملحة لدى شوقي، فهي "العامل الأهم في حركة تاريخ المجتمعات، لذلك من المفيد النظر إلى المسألة نظرة تاريخية وبيان حركة التناقضات في مسيرة المجتمعات". وفي جلد للذات وقسوة كبيرين، يتساءل الرجل "كيف نكون مبدعين ونحن نعيش في عصر القبيلة؟ .. نحن مجتمعات خارج دوائر الإبداع الإنساني ولا نجيد إلا إنتاج بعض احتياجاتنا المادية المباشرة بعيدا عن الإبداع الذهني".
إطلالة سريعة في قائمة أعمال الراحل تكشف عمق انشغاله، فمنتخباته من الأعمال مع مقدمات تفصيلية طويلة، تكفي للتأكيد على مركزية البناء الفكري والذهني للإنسان العربي قصد الاهتمام بالمعرفة والقيم، فترجم دراسات رصينة تؤكد للعقل العربي وجود إمكانات الفعل الحضاري، من قبيل، "الشرق يصعد ثانية، الاقتصاد الكوكبي في العصر الآسيوي" و"تشكيل العقل الحديث" و"بنية الثورات العلمية" و"التنمية حرية، مؤسسات حرة وإنسان متحرر من الجهل والمرض والفقر" و"جغرافية الفكر، كيف يفكر الغربيون والآسيويون على نحو مختلف، ولماذا؟" و"التنوير الآتي من الشرق، اللقاء بين الفكر الآسيوي والفكر الغربي"... وغيرها من عناوين يطول مقام سردها، يظل الدفع بالفرد في الوطن العربي نحو دورة حضارية القاسم المشترك بينها.
تجاوز شوقي جلال سلاح الترجمة الذي مكنه من عرض تجارب الشعوب لأبناء وطنه، نحو الاشتباك مع أعطاب الأمة بسلاح الفكر، مستخدما ما تراكم لديه من أعوام الترجمة في إمعان النظر في أحوال المجتمعات العربية، فكتب ثلاثية رائعة في تشريح أوضاع الفكر العربي، مستثمرا الانتماء إلى الذات موضوع البحث من عائق إلى محفز، فكتب "الفكر العربي وسوسيولوجيا الفشل"، ثم "المجتمع المدني وثقافة الإصلاح، رؤية نقدية للفكر العربي" أعقبه ثالث بعنوان، "أركيولوجيا العقل العربي، البحث عن الجذور".
كان الراحل مثقفا صارما مع نفسه في كل شيء، حادا في مواقفه، فحين سئل عن فشل المشروع الحداثي العربي، كان رده صادما لكثير من إخوانه في قبيلة المثقفين، حين قال، "أولا لم يكن هناك مشروع حداثي عربي، وإنما خطاب عام ورسمي، لا يعبر عن واقع حقيقي، والملاحظ أن التعاون العربي المشترك تأكد في اتفاقيات الأمن فقط، الاتفاقات العسكرية والاقتصادية أو المواقف السياسية أو المشاريع الثقافية، بل مشاريع ترجمة مشتركة، كل هذا قيل كلاما، ولم تتهيأ له الأرضية اللازمة".
استقلالية الرجل أبعدته عن صالونات الوجاهة، وأضواء الإعلام والصحافة، فالرهبنة في محراب الفكر والثقافة بإبلاء وعزة نفسه كانت خياره الأبدي. خيار دفع ثمنه أكثر من مرة في حياته، لكن ذلك لم يثنه عن المحافظة عن هذه الخصال، حتى وهو طريح الفراش، بقراره مواجهة منحة المرض وحيدا مع أسرته الصغيرة. ووفاء للنهج ذاته، أوصى بألا يقام له عزاء في قاعة، وأن يقتصر الأمر على مقابر الأسرة فقط.

إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون