أمام جونسون فرصة ذهبية لرسم دور عالمي لبريطانيا

أمام جونسون فرصة ذهبية لرسم دور عالمي لبريطانيا

يحب توني بلير أن يروي قصة عن أول يوم له كرئيس للوزراء عام 1997. دخل 10 داونينج ستريت بقوة وسط موجة من الهتافات، وكان في استقباله رئيس الخدمة المدنية الذي قال بفظاعة: "تهانينا، رئيس الوزراء. ثم ماذا بعد الآن؟"
سيواجه بوريس جونسون سؤالا مشابها عند عودته إلى رقم 10 بعد الفوز الكاسح في الانتخابات العامة منذ فوز بلير في 2001.
إذا أراد أن يدخل اسمه في التاريخ كرئيس وزراء عظيم، فسيتعين عليه إيجاد تسوية سياسية جديدة لبريطانيا في الخارج وكذلك في الداخل.
فاز جونسون على أساس شعار بدلا من برنامج، إلا أن شعار "فلننجز البريكست" Get Brexit Done سيأخذه إلى نهاية كانون الثاني (يناير) المقبل فحسب، أي موعد الخروج الرسمي لبريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
لاحقا، سيبدأ طرح الأسئلة الحقيقية حول دور بريطانيا بعد ذلك إذ سيتعلق مستقبل البلاد الدولي بما إذا كان بوسع جونسون ومستشاروه التوصل إلى إجابات معقولة.
هناك نسخة قاتمة عن الكيفية التي ستطور هذه القصة. بهذه الصورة، لأن شعار فلننجز البريكست سينكشف بسرعة أنه عبارة فارغة.
في الواقع، سيستغرق الأمر أعواما عديدة للتفاوض على صفقة تجارية، خلالها سيعاني الاقتصاد البريطاني عدم اليقين ونقص الاستثمار.
سيتراجع التأثير الدبلوماسي لبريطانيا خارج الاتحاد الأوروبي، وستصبح أكثر عرضة للتنمر من جانبي الصين والولايات المتحدة.
كما ستتحول البلاد إلى الداخل وستصبح المماحكات السياسية بداخلها أكثر سوءا، وستتعرض للتهديد بالتفكك بينما تسعى اسكتلندا إلى الاستقلال.
كل هذا ممكن تماما، لكنه ليس حتميا. دعونا نتخيل أن الأمور تسير بشكل أفضل لبريطانيا في العالم. ماذا سيكون الشكل الذي يبدو عليه ذلك؟ وما الذي يتطلبه الأمر لتحقيق ذلك؟
صحيح أن "بريكست" لن يتم في اللحظة التي تغادر فيها بريطانيا الاتحاد الأوروبي. ستكون هناك مفاوضات تجارية صعبة مع الاتحاد الأوروبي، من المحتمل أن تستغرق وقتا أطول بكثير من العام الذي وعد به جونسون.
على أن رئيس الوزراء أظهر منذ الآن أنه قادر على تجاوز المواعيد السياسية والدبلوماسية، دون دفع ثمن باهظ. يمكن القيام بذلك مرة أخرى.
يجب أن يكون هدف جونسون الحقيقي التقليل من تأثير "بريكست" يجب عليه ألا يحول المفاوضات إلى التوصل إلى صفقة تجارية جديدة مع الاتحاد الأوروبي، مهما طال أمدها إلى عملية بيروقراطية مملة تبقى في الأغلب بعيدة عن العناوين الرئيسة. سيساعد ذلك على امتصاص بعض السم من النظام السياسي البريطاني وعلاقته بالاتحاد الأوروبي.
لن يكون تقليل "بريكست" سهلا لأن القضايا معقدة، وتزداد تعقيدا بسبب رغبة جونسون الواضحة في الابتعاد كثيرا عن قواعد الاتحاد الأوروبي الحالية.
ومع ذلك، فإن المفاوضات قد لا تكون طويلة كما يتوقع بعض النقاد. هناك إرادة قوية في كل من بروكسل ولندن للتوصل إلى اتفاق في أسرع وقت ممكن لأن كلا الجانبين سئم بشدة من "بريكست".
يظهر سجل المرحلة الأولى من المفاوضات أنه في اللحظة الأخيرة، يميل كل من الاتحاد الأوروبي وبريطانيا إلى الابتعاد عن التصادمات المباشرة.
تمكن جونسون من إقامة تقارب لائق مع قادة الاتحاد الأوروبي الرئيسين. قال رئيس فرنسا إيمانويل ماكرون: "إنه قائد يتمتع برؤية استراتيجية حقيقية. الذين لم يأخذوه على محمل الجد، كانوا مخطئين إلى حد كبير".
يحتوي الاقتصاد البريطاني على عدد قليل من القطاعات الرائدة حقا في العالم، وسيتعين على حكومة جونسون بذل قصارى جهدها لحمايتها وتعزيزها في المحادثات التجارية. وتشمل التمويل والخدمات القانونية، والمستحضرات الصيدلانية، والتعليم، والسياحة، والصناعات الإبداعية. لن تكون الصفقة السريعة حول الرسوم الجمركية مع الاتحاد الأوروبي جديرة بالحصول عليها، إذا تم شراؤها على حساب قطاع الخدمات.
لا تستطيع حكومة جونسون السماح للصناعات الصغيرة مثل مصايد الأسماك بإملاء استراتيجية بريطانيا، مهما كانت قوتها السياسية.
من شأن المفاوضات المطولة أن تحدث حالة من عدم اليقين، ما يؤثر سلبا في النمو. الاقتصاد البريطاني أثبت أنه قوي بشكل مدهش في مواجهة ثلاثة أعوام ونصف من عدم اليقين منذ التصويت على "بريكست"، مع نمو بريطانيا بوتيرة متكافئة مع كل من فرنسا وألمانيا.
يجب أن يكون الهدف طويل الأجل هو تجاوز المفاوضات التجارية وإحداث علاقة سياسية جديدة مع أقرب جيران بريطانيا.
تفهم القوى الأوروبية الرئيسة الأخرى، ولا سيما فرنسا وألمانيا، قيمة بريطانيا كشريك عسكري واستخباراتي ودبلوماسي وتجاري، خاصة في عصر الأحادية الأمريكية والقوة الصينية المتنامية.
تحدث ماكرون عن إنشاء "مجلس أمن أوروبي مع بريطانيا على متنه". التفاصيل غامضة، لكن الفكرة بالتأكيد تستحق البناء عليها.
غالبا ما يتم الاستهزاء بشعار "بريطانيا العالمية" الذي يفضله جونسون كنوع من الخيال لعصر ما بعد الإمبراطورية، إلا أنه يشير إلى ميزة حقيقية. بريطانيا بلد متصل بشكل غير عادي تربطه علاقات اقتصادية وثقافية وأمنية مع جميع أنحاء العالم.
الولايات المتحدة وبريطانيا متماثلتان تماما من حيث عدد قادة العالم الذين تلقوا تعليمهم في بلدانهم.
(الأرقام في عام 2018 كانت 58 للولايات المتحدة و57 لبريطانيا، مع بلوغ العدد في فرنسا 40 وروسيا 10).
وتبقى بريطانيا واحدة من خمسة أعضاء دائمين في مجلس الأمن الدولي.
يصور عديد من مؤيدي جونسون إمكانية عقد صفقة تجارية جديدة مع الولايات المتحدة، على أنها جائزة "بريكست" الكبرى المحتملة، إلا أنها ستكون مثيرة للجدل من الناحية السياسية على جانبي المحيط الأطلسي، فبدلا من محاولة تأمين صفقة كبيرة على الفور، يمكن أن تبدأ بريطانيا والولايات المتحدة ببعض الصفقات القطاعية صغيرة الحجم التي تعود بالنفع المتبادل، على سبيل المثال: التأشيرات والهجرة للعمال ذوي المهارات العالية، حيث سيكون لبريطانيا بعد "بريكست" مرونة جديدة.
إذا كان جونسون يبحث عن صفقة تجارية "جاهزة" لاستخدام إحدى عباراته المفضلة يجب على لندن النظر في الانضمام إلى شراكة عبر المحيط الهادئ، ثالث أكبر كتلة تجارية في العالم، تشمل دولا متنوعة مثل أستراليا، اليابان والمكسيك.
الاعتراض الواضح هو أن بريطانيا ليست دولة في المحيط الهادئ، لكن شينزو آبي، رئيس وزراء اليابان، قال إنه يرحب بطلب بريطانيا الانضمام إلى الكتلة.
أظهرت الطريقة التي تحركت بها اليابان لإنقاذ اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ بعد انسحاب ترمب رئيس الولايات المتحدة منها عام 2017، أن القوى متوسطة الحجم مثل اليابان لديها مصلحة واضحة في الحفاظ على القواعد الدولية، في وقت تتحدى فيه كل من الولايات المتحدة والصين النظام العالمي متعدد الأطراف.
ستشارك بريطانيا ما بعد "بريكست" في هذا الاهتمام، ويجب أن تعمل مع قوى مجموعة العشرين متوسطة الحجم الأخرى، التي تشاركها تلك الآفاق العالمية، بما في ذلك أستراليا وكندا وكوريا الجنوبية.
بعد أن تزعزع استقرارها نتيجة "بريكست" انجرفت وزارة الخارجية البريطانية إلى لغة العمل الاجتماعي.
الدبلوماسيون يتحدثون عن "المحادثات التي نحتاج إليها مع أصحاب المصلحة الآخرين". ركزت السياسة الخارجية البريطانية على سياسات آمنة مثل المساعدات التنموية، أو الأهداف الداخلية مثل تطوير هيئة دبلوماسية أكثر تنوعا.
ستحاول حكومة جونسون تركيز السياسة الخارجية بشكل أكبر على الهدف التقليدي المتمثل في تعزيز المصلحة الوطنية.
والأمر الذي له دلالته هو أن عضوا مؤثرا في وحدة سياسة جونسون في 10 داوننج ستريت هو البروفيسور جون بيو مؤلف كتاب عن "السياسة الواقعية"، التي يصورها على أنها "الترياق الضروري للمثالية المفرطة في السياسة الخارجية الأنجلو-أمريكية في حقبة ما بعد الحرب الباردة".
تحديد المصلحة الوطنية بطبيعة الحال أمر مثير للجدل لكن "السلام والازدهار" هو بداية لائقة.
الحفاظ على الاستقرار السياسي الداخلي ووحدة الأراضي أهداف مهمة أيضا؛ نظرا إلى الانقسامات السياسية الواسعة التي فتحها "بريكست" والتهديد المتزايد باستقلال اسكتلندا.
في حين أن هذه قد تبدو أهدافا داخلية، إلا أن "بريكست" أظهر أن الخط الفاصل التقليدي بين السياسة الخارجية والسياسة الداخلية قد انهار.
في الواقع يمكن اعتبار العملية برمتها بمنزلة قرار للتضحية ببعض النفوذ الدولي، لمصلحة الحاجة إلى تسوية سياسية محلية جديدة.
الحاجة المفهومة إلى إعادة بناء القوة والنفوذ البريطانيين في حقبة ما بعد "بريكست" ستحتاج إلى البقاء مرتبطة بشكل وثيق بهدف تحقيق التماسك السياسي الداخلي.
من غير المرجح أن يكون هناك إجماع مستقر على مزيد من الإنفاق العسكري، أو نشر أكثر نشاطا للجيش البريطاني في الخارج ما لم تتمكن الحكومة من إقامة صلة مقنعة مع المخاوف الداخلية.
التشديد مجددا على السياسة الواقعية قد يؤكد شكوك المنتقدين الليبراليين لجونسون، من فكرة أنه الرائد البريطاني لموجة عالمية من الليبرالية: في عبارة أخرى جونسون هو: "ترمب بريطانيا" كما أطلق عليه الرئيس الأمريكي.
ستكون مهمة جونسون الرئيسة إثبات أنه أفضل من هذا. يجب أن يكون هدفه في الداخل استيعاب السخط الشعبوي الذي قاد "بريكسيت" دون أن يقود البلاد إلى طريق مسدود متعصب، منكفئ على نفسه.
إذا أفلح في ذلك، فقد يكون جونسون قادرا على إقناع عالم متشكك بأن "بريكست" ليس عملا شاذا من إيذاء الذات، أو يعني استقالة بريطانيا من المجتمع الدولي، بدلا عن ذلك، يمكن أن يظهر كيف يمكن ليمين الوسط في العالم أن يستجيب للشعوبية دون الخضوع للإغراء الاستبدادي.
يتضمن هذا المشروع إعادة تأكيد أهمية الأمة، والتركيز على قضايا مثل المواطنة والحدود التي تجعل كثيرا من الليبراليين غير مرتاحين.
إذا عمل هذا الجهد على مصالحة الناخبين المستائين مع الدولة وساعد على سد الهوة بين النخب والناس العاديين، فلربما يعمل فعلا على تثبيت استقرار الديمقراطية بدلا من تقويضها.
إذا استطاعت بريطانيا في عصر جونسون التوفيق بين الشعبوية، والبقاء بلدا مزدهرا ومتسامحا ومنفتحا، في الوقت نفسه فإن رئيس الوزراء سيكون قد توصل إلى تسوية سياسية جديدة ضمن بريطانيا، وبعمله هذا فإنه سيرسم ملامح أساس جديد لعلاقات بريطانيا مع العالم الخارجي.

الأكثر قراءة