FINANCIAL TIMES

بريطانيا وروسيا .. ثنائي أوروبا الغريب

بريطانيا وروسيا .. ثنائي أوروبا الغريب

العداوة الشديدة الحالية بين روسيا وبريطانيا تخفي بعض أوجه التشابه المهمة بينهما، فمن المرجح أن تصبح أوجه التشابه هذه أكثر وضوحا بعد "بريكست" بطرق لا بد أن تقلق كلا من بريطانيا والاتحاد الأوروبي.
من الناحية الجغرافية بريطانيا وروسيا كلاهما يقعان على أطراف القارة الأوروبية، وكنتيجة جزئية لهذا، لطالما كان لدى كل منهما هوية مزدوجة على نحو متزامن يعتبران أنفسهما أوروبيين وشيئا أكثر من ذلك.
يقع نحو 80 في المائة من مساحة الأراضي الروسية في آسيا.
كما تم بناء الإمبراطورية البريطانية خارج أوروبا، وما زالت البلاد تتمتع بعلاقات ثقافية قوية مع "الأنجليوسفير" أي مجموعة الدول الناطقة باللغة الإنجليزية والمتشابهة معها في التراث الثقافي في أمريكا الشمالية وأستراليا وجنوبي آسيا.
لذلك ليس من المستغرب وقوف بريطانيا وروسيا بصفتهما قوتين أوروبيتين رئيستين خارج الاتحاد الأوروبي في نهاية المطاف.
ومع ذلك، ستبقى القوة الجماعية للاتحاد الأوروبي مصدر قلق للبلدين.
ولأنهما يقعان على حدود القارة، دائما ما يقلقان من صعود قوة واحدة تهيمن على الكتلة اليابسة الأوروبية، ما يفسر جزئيا سبب أن يكونا حلفاء في الحروب النابوليونية وفي كلا الحربين العالميتين في نهاية المطاف.
لقد بنى كل منهما دولة هويتها الحديثة حول ذكرى النصر عام 1945. وشيد كل منهما على الحنين إلى السلطة الإمبريالية.
بالنسبة إلى بريطانيا، العامل الموازي الروسي غير مشجع، فهو يشدد على خطر أن يؤدي "بريكست" إلى توتر طويل الأمد في العلاقات مع أوروبا القارية، وانتهاج سياسة قومية ساخطة في بريطانيا.
بالنسبة إلى بروكسل، فإن الخطر يكمن في أن يضطر الاتحاد الأوروبي في نهاية المطاف، إلى مواجهة جارين غاضبين ومعزولين في بريطانيا وروسيا.
كلاهما قوة كبيرة بالنسبة إلى أوروبا مع قدرة كبيرة على التسبب في الأذى، ولا شك أن بريطانيا لديها طابع ليبرالي وديمقراطي ليس موجودا في روسيا، أي هناك من القيم السياسية ما يربط لندن بكل من باريس وبرلين أكثر من موسكو، من شأن هذه القيم ألا تسمح للطبقة السياسية البريطانية بأن "تتمرد" على طريقة روسيا في عهد فلاديمير بوتين.
بيد أن الجغرافيا السياسية ليست مدفوعة بالقيم وحدها. هناك أيضا جزئية العواطف والمصالح الاستراتيجية. هذا هو وجه الشبه بين روسيا ما بعد الاتحاد السوفياتي وبريطانيا ما بعد "بريكست"
الاضطرابات الاقتصادية والنكسات الاستراتيجية في التسعينيات أقنعت عديدا من الروس بأن بلادهم استغلت من قبل الغرب.
يرتكز الغضب الروسي على الولايات المتحدة وتوسع النيتو، على أن الكرملين أصبح أيضا يرى أن الاتحاد الأوروبي يمثل تهديدا لأنه من منظورموسكو توسع في ضم مناطق نائية مجاورة لروسيا أو كانت تدور في فلكها.
كان قرار الكرملين بالتدخل عسكريا في أوكرانيا، ناجما عن حقيقة أن البلاد كانت على وشك توقيع اتفاقية شراكة مع الاتحاد الأوروبي.
إذا لم يسر "بريكست" على ما يرام قد يثير ذلك أحداثا تذكرنا بانهيار الاتحاد السوفياتي، تفكك بلاد مصحوب بصدمة اقتصادية عميقة.
لا شك أن القوميين الإنجليز يرون أن الاتحاد الأوروبي كان متواطئا في مثل هذه الأحداث الخبيثة: بعض النقاد يتهمون بروكسل باختلاق مشكلات مصطنعة بشأن الحدود الإيرلندية، ما تسبب في تأخير إتمام صفقة التجارة الحرة بشكل غير معقول، وأدى إلى تشجيع المناداة بالاستقلال الاسكتلندي.
في الوقت الحالي يحرص المسؤولون البريطانيون والأوروبيون على التحدث بلغة الصداقة والشراكة المستقبلية. أما خلف الأبواب المغلقة وخارج السجلات فتنمو العداوات، أحد المسؤولين السابقين ذوي النفوذ في الاتحاد الأوروبي، قال لي نظرا إلى أن "بريكست" سيكون تهديدا للاتحاد الأوروبي، فإن من مصلحة أوروبا تشجيع الاستقلال الاسكتلندي والوحدة الإيرلندية.
لقد قال ذلك وهو تحت تأثير ما عندما عرضت العامل الموازي الروسي، وأن إهانة بريطانيا ستكون فكرة سيئة، قيل لي إن بريطانيا مسؤولة عن إهانة نفسها؛ وعلاوة على ذلك، كانت بريطانيا قد سبقت بإلحاق الإهانة بالاتحاد الأوروبي بالتصويت على المغادرة. "لقد قلتم إنكم أفضل منا".
حتى في البيانات المسجلة يمكنك سماع لمحات من التنافس.
قالت أنجيلا ميركل المستشارة الألمانية، التي عادة ما تمثل صوت الاعتدال، إن بريطانيا ستكون "منافسا" للاتحاد الأوروبي بعد "بريكست" ووضعتها مع الصين والولايات المتحدة.
إذا استجاب الاتحاد الأوروبي كما يتوقع لهذا التهديد التنافسي المتصور برفضه التحرك نحو تجارة معفاة من الرسوم الجمركية مع بريطانيا، سيزداد العداء بين لندن وبروكسل.
سيجادل الأوروبيون مع بعض التبرير بأن بريطانيا قد جلبت مصيرها المؤسف على نفسها تماما مثل روسيا، على أن الفوز في النقاش لن يمنع حدوث المواجهة، وفي حال ازداد الوضع سوءا، ستلعب بريطانيا أو ربما إنجلترا فقط الأوراق القليلة التي تملكها: تقليص التعاون الأمني والدبلوماسي مع أوروبا، والعمل مع القوى المعادية للاتحاد الأوروبي.
هذه التهديدات لا تؤخذ على محمل الجد في عواصم الاتحاد الأوروبي في الوقت الراهن، لأن بريطانيا في حالة فوضوية جدا الآن.
تم اعتماد موقف الرافض نفسه الذي وجه للروس في التسعينيات، بعد كل شيء كان بلدهم قد انهار للتو وكان اقتصادهم في حالة تباطؤ.
بدافع عدم إذلال نفسها أعادت روسيا تأكيد قوتها بطرق يجدها الاتحاد الأوروبي مخيفة الآن.
الدرس المستفاد هو أن البلدان التي كانت قوى أوروبية كبرى منذ قرون، من غير المرجح أن تتحول ببساطة إلى بلدان غير مهمة.
لا بد من مراعاة مصالحها إذا لم يكن ذلك ممكنا، فسيتعين على الاتحاد الأوروبي مواجهتها.
عموما، في كلتا الحالتين، فإن البناء الأوروبي الذي يستبعد كلا من بريطانيا وروسيا، من غير المحتمل أن يكون مستقرا أو آمنا.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من FINANCIAL TIMES