الألم .. مدرسة الإنسان دون باقي الكائنات

الألم .. مدرسة الإنسان دون باقي الكائنات
الألم .. مدرسة الإنسان دون باقي الكائنات

الألم سواء كان روحيا أم جسديا، تجربة تعاش، وقوة دفينة لا يتلمس مفعولها إلا من يحس بها، لدرجة يمكن معها القول؛ قياسا على الكوجيتو الديكارتي، "أنا أتألم، إذن أنا موجود". فما من شيء أقدر على تأكيد الإحساس بالذات، وإشعالها بالتيقن من حقيقة وجودها، أكثر من مرارة الإحساس بالألم.
وبلغ الأمر بالكاتب المسرحي الإغريقي الشهير أسخيلوس حد اعتبار الألم مدرسة؛ "الألم يعلم الإنسان". طبعا، لا يعني بالضرورة، أن الألم يعلمنا معرفة شبيهة ببقية المعارف، بقدر ما يقصد أنه تعبير عن الهوية الضعيفة للإنسان. فعبر الشعور بالألم؛ خصوصا الروحي منه، يتعلم الإنسان أنه مختلف عن القوى المتعالية، وعن باقي الكائنات الأخرى.
يعد الألم على غرار المرض أو الموت فدية للبعد الجسماني للوجود، إنه حظوة الشرط الإنساني والحيواني ومأساته، وعلى الرغم من أنه ضرورة يشترك فيها جميع الناس، إلا أنه يظهر دوما للشخص الذي يعيش تجربته، وكأنه معطى دخيل على ذاته. ويحدث مع مرور الوقت، أن الإنسان قد ينسى ما ذاقه من مراراته.
نقيض باقي الأحياء، يبقى الإنسان الكائن الوحيد الذي يتألم روحيا، وهو في ألمه هذا يقترب من الفلسفة، ليكون بذلك كائنا فلسفيا. في معرض فهم وتفسير هذه الكينونة، برز عديد من النظريات الفلسفية التي تغوص في البحث وراء الأسباب الجذرية للألم البشري، الذي بقي ذاك المجهول العصي عن الفهم طيلة قرون.
حتى بزوغ فجر النهضة العلمية في أوروبا، لم يصنف الألم ضمن الحواس البشرية؛ فكثيرون اعتقدوا أن الألم موجود خارج الجسم البشري. فأفلاطون وأرسطو مثلا يعدان الألم واللذة ليسا سوى مشاعر، في حين اعتقد أبقراط أن سبب الألم هو اختلال التوازن في السوائل الحيوية للإنسان، وعد القلب محوريا في عملية الإحساس بالألم.
وبقي هذا الاتجاه سائدا حتى أواسط القرن الـ17، حين شبه ديكارت جسم الإنسان بالآلة، وفسر الألم بأنه اضطراب ينقل عبر عبر الألياف العصبية إلى أن يصل إلى الدماغ. بذلك حول الرجل إدراك الألم من كونه تجربة روحية وباطنية إلى إحساس فيزيائي وميكانيكي، يتطلب علاجه تحديد مصدر الألم بعيدا عن الماورائيات.
لم يستطع هذا التطور في مسار اكتشاف الألم أن يقدم تفسيرا مقنعا بشأن أسباب تفاوت درجات تحمل الألم من شخص إلى آخر. فهو لدى البعض مجرد إحساس عابر؛ أي أزمة محصورة زمنيا قبل العودة إلى حالة الطبيعة. بينما تتخذه طائفة من الناس رفيقا لها، يغذي تطلعاتها في بناء مسار أفضل في الحياة.
يعد الرياضي الممارس للرياضات القصوى أو الرياضي في المسابقات أو من خلال التدريبات، خير مثال على هذا، فهو يقبل بالألم باعتباره مادة أولية لمنجزاته. فيكون هدفه الأسمى قبل التفكير في الفوز؛ لأنه السبيل إلى تحقيقه، هو العمل على ترويض الألم وكبحه، فالتراخي والضعف حياله يكون بالنسبة إلى هؤلاء من باب التهور.
تتباين الرؤى وتتصارع الحجج والبراهين حد التضارب، في معرض تفسيرها أسباب اختلاف الإحساس بالألم بحسب الأشخاص. فالاختلافات الفردية بشأن الألم هي بمنزلة صورة مصغرة للعلم، حيث يلتقي علم النفس وعلم الأحياء وعلم الاجتماع. ويرتبط بعوامل من قبيل النوع والعرق والشخص والثقافة، وما إلى ذلك من العناصر التي تمتزج، لتغير نظرة المرء تجاه الألم.
وهذا ما ذهب إليه إخصائي في علم النفس السريري في جامعة فلوريدا في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث أكد أن البحث في موضوع الألم يستدعي تجاوز السجال الثنائي، من خلال حصر المعركة بين علماء النفس وأطباء الطب الحيوي، "فما أحوجنا" يقول "إلى دمج كل هذه العوامل لفهم كيفية عملها معا بشكل أفضل، لإيجاد تجربة الألم في النهاية".
بعيدا عن المصادرات التي أضحت شبه قواعد تقدم عند البحث في تفسير أسباب ومبررات تحمل الألم، نشير إلى التميز الذي حققته أبحاث الأنثروبولوجي الفرنسي دافيد لوبروتون، ضمن حقل الدراسات المعاصرة التي اشتغلت على موضوع الألم. وذلك بالنظر إلى جِدة طرحه وعمقه، وتفرد مقاربته له، التي نشرها في كتابه "تجربة الألم" (2018)، وهو امتداد وتطوير لكتاب "أنثروبولوجيا الألم" (1995).
يحملنا الكتاب على امتداد صفحاته التي تعدت 200 صفحة، في رحلة استثنائية لسبر عوالم الألم، انطلاقا من أبعاده المادية "المرض مثلا" أو أبعاده الرمزية "العذاب النفسي"، ما يهدد هوية الفرد. مميزا بين الآلام القسرية والطوعية، وطرق تملك وضبط وترويض الألم؛ إذ يعالج تجربة الألم وكيفية معايشته، ويتم الإحساس بها من قبل الأفراد. ويحاول الاقتراب ما أمكن من الشخص ليتحصل لديه فهم دقيق حول حياة الفرد المَعيشة.
يكشف الكاتب عن جملة من التمفصلات التي تسكن العلاقة القائمة بين الألم والعذاب؛ التي عادة ما يتم الخلط بينها. فبالنسبة إليه الألم كضرورة وجودية تتعالى على العذاب، لتحصيل اللذة وتحقيق الذات والمتعة والشعور الذاتي. يعتمد لوبروتون على خلاصات أطروحته حول "أنثروبولوجيا الألم" لتأكيد أن "الألم المطلوب أو المَعيش من خلال السلوك ذي المخاطر أو حز الجسم هو من طبيعة مغايرة للألم الملم بالمريض".
على مدار كتابه الرائع ما انفك الكاتب يردد خلاصة، مفادها أن "كل ألم يؤدي إلى تحول، فهو يغير عميقا؛ نحو الأفضل كما نحو الأسوأ، الشخص الذي يلم به". بمعنى أن الألم قادم لا محالة، فكل إنسان منا، يعيش في مرحلة من مراحل حياته لحظات قد تطول أو تقصر مع الألم.
تبقى المعركة إذن هي مواجهة هذا الألم بالإصرار على تحمله، ثم معركة أخرى لا تقل أهمية عن سابقتها، هي الحرص على أن يكون التحول الذي يحدثه أو يتركه فينا الألم؛ جسديا كان أو روحيا، نحو الأحسن لا العكس.

الأكثر قراءة