في بغداد.. فبراير موسم احتفاء متجدد بـ «الفقع»

في بغداد.. فبراير موسم احتفاء متجدد بـ «الفقع»
في بغداد.. فبراير موسم احتفاء متجدد بـ «الفقع»
في بغداد.. فبراير موسم احتفاء متجدد بـ «الفقع»

الليل يحل والرجال في سترات طويلة يصطفون على طول طريق باتجاه الغرب. على أنهم يستفيدون في هذا الموضع من أضواء السيارات الأمامية، من أجل جمع ما يشبه أكواما من الصخور الموحلة.
أهلا بكم في بغداد، فنحن في شهر شباط (فبراير)، ألا وهو موسم الكمأة "الفقع" نبات الصحراء.
أول مرة أتذوق فيها هذه النبتة النادرة اللذيذة كانت مع عضو مجلس محافظة بغداد.
في الوقت الذي كان يسرد فيه ويعدد نوري جاسم أوجه القصور في المحافظة، مستخدما حبات المسبحة، مبرزا منها تدني الصرف الصحي، ونقص المساكن، والفساد، والبطالة، بدأت بأكل شرائح الكمأة المسلوقة بشهية.
هي على شكل قطع صغيرة، توضع على حجارة صغيرة ومغطاة بالرمل، إلا أنها لذيذة الطعم، على الرغم من ذلك.
قيل لي إن أفضل أنواع الكمأة "الفقع" هي تلك الأنواع التي ترد إلى الأسواق من محافظة الأنبار الصحراوية إلى الغرب من بغداد، والتي تقع على الحدود مع سورية والأردن. تلك الحبات التي حصلت عليها كانت من السماوة، التي تبعد بضع ساعات إلى الجنوب من بغداد.
على عكس الكمأة الأوروبية، فإنها هنا من الرخص بمكان، ومن الواضح أنه ليس من الصعب العثور عليها – إذ يبحث صيادو الكمأة عن النتوءات في التربة الرملية، لذلك ليست هناك حاجة لوجود حيوانات تعثر عليها بأظفارها.
تأتي الكمأة بأصناف سوداء وبيضاء. ويقال إن أفضل نوعية لها هي تلك التي تأتي في أعقاب فصل شتاء عاصف.
على أن عمل الباحثين عن الكمأة قد يكون خطيرا. يتعثر باحثو الكمأة أحيانا في مناطق مليئة بالألغام، في أعقاب حروب العراق التي دامت أكثر من ثلاثة عقود.
وبحسب ما ورد، تم اختطاف وقتل ثلاثة أشقاء كانوا يجمعون الكمأة في الجبال شمالي بغداد هذا الشهر، في هجوم يشتبه أنه من تنفيذ داعش.
في الآونة الأخيرة، قام جاسم بتنظيم حملة ضد مخطط لتأجير مباني المكتبة العامة القديمة للاستخدام التجاري.
كان يعتقد أنه يتم استغلاله من قبل مسؤولين فاسدين. أمضغ الكمأة وأنا أستمع، وأستمتع إلى أي مدى يمكن أن تكون بغداد طبيعية في عام 2019.
لطالما كانت المكتبات مرادفا لحظوظ بغداد. قبل ثمانية قرون، كانت أعظم مدينة في العالم، مع عدد سكان يبلغ مليون نسمة، وعلاوة على ذلك تجذب العلماء مما وراء البحار.
على أن ذلك العصر الذهبي الإسلامي "العباسي الأخير" قد انتهى في عام 1258، عندما اجتاح الغزاة المغول البلاد وعمدوا إلى ذبح سكان المدينة ونهب مكتبتها، بل وإلقاء الكتب في نهر دجلة، الذي يقال تارة أنه قد اصطبغ حتى صار أسود اللون بسبب الحبر، وتارة أنه قد استحال إلى الحمرة القانية، جراء حمامات الدم.
لقد رتبت لقاء مع سعد إسكندر في مقهى لديه ورق جدران على شكل غلاف كتاب.
هذا الرجل النحيل ذو الشعر الأشيب عاد من المنفى في لندن في عام 2003 ليصبح مديرا للمكتبة الوطنية، وهو المنصب الذي تولاه حتى عام 2015.
ويروي قصصا جيدة عن بغداد متعددة الثقافات في شبابه، بحيث أنني نسيت أن أسأله عن أي شيء عن حالة المكتبات العامة.
وفي ذلك الصدد يقول: "عندما ولدت، أرضعتني امرأة عربية". على الرغم من أنه شخصيا من قسم من الكرد يعرفون بـ"الفيلية"، الذين ينحدرون من الأراضي الواقعة حول ما هو الآن الحدود الإيرانية العراقية.
ويقال إنهم تعرضوا للاضطهاد– نشأ في الستينيات في حي باب الشيخ بين ثلاثة أضرحة.
وفي حين أن أصحاب تلك الأضرحة قد احتفظوا بها تقليديا لأنفسهم، حيث ينتمون إلى السنة، إلا أن بعض المتشددين ينتقدون أسلوبهم في العبادة فهو يشبه التنويم المغناطيسي. على أية حال، فإن الأضرحة ما زالت على حالها. الضريح الذي زرته في حي الجامعة يقع على الجانب الآخر من نهر دجلة.
عندما كان صبيا، كان اسكندر يقضي ساعات وهو يتجول في المساجد والأسواق، حيث يقول إن أحياء السنة والشيعة والفيلية كانت تعيش جنبا إلى جنب.
والده الذي علم نفسه بنفسه "أنفق نصف راتبه على الكتب والمجلات"، وكانت المنطقة موطنا للشعراء والفنانين.
يرسم إسكندر جغرافيا منسية لعشرات دور السينما في مدينة بغداد قبل عقود زاهية، تزامنت مع شبابه الأول، حيث كان مع أصدقائه يشاهدون الأفلام الإيطالية أو الفرنسية. الرقابة في عهد صدام، فضلا عن الحرمان بموجب العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة في التسعينيات، دفعت دور السينما إلى الإغلاق.
لقد أعيد افتتاح عدد صغير منها فحسب. بينما كان يعمل لإعادة بناء المكتبات في أوائل العقد الأول من الألفية، كانت المدينة غارقة في إراقة الدماء الطائفية.
اليوم، تتنفس بسهولة أكثر. الجدران ونقاط التفتيش بدأت التداعي، إن لم نقل السقوط.
هذا لا يعني أن المثقفين آمنون. لا تزال هناك مجموعة من الجماعات المسلحة خارج سيطرة الدولة، لكل منها تاريخها العِرقي والطائفي.
قبل يومين فحسب من لقائي مع إسكندر، اغتيل الروائي علاء مشذوب خارج منزله في مدينة كربلاء، حيث تم إطلاق النار عليه 13 مرة، من قبل مهاجم مجهول الهوية.
كان مشذوب قد تحدث علنا ضد النفوذ الإيراني في العراق. على أنه قد تم التعرف على قاتليه لاحقا، لكن كثيرا من ميليشيات الشيعة التي تعمل هنا ظاهريا لدعم قوات الأمن، لديها دعم إيراني وتخضع بالتالي لنفوذ طهران.
يحذر إسكندر بقوله من إنه: "توجد جماعات مسلحة في كل مكان". وهو يدعو إلى إجراء تغيير هادئ بدلا من الانتقاد الصريح للأوضاع، لأن ذلك يبدو مكلفا للغاية، كما يبدو. ويضيف "ليست لديك القوة لمواجهة عدوك" الآن.
وجدت أثرا آخرا لبغداد القديمة عند نهرها العظيم. أثناء تقليب الباذنجان على شعلة غاز بأصابعه، كان أنمار عايب الصابئي المندائي البالغ من العمر 30 عاما، يقوم بإعداد وجبة غداء متأخرة.
الوقت نسبيا – بحسب تقويم سيدنا يحيى الذي يزعم الصابئة المندائيون اتباعه – هو عام 2052.
لدى المندائيين حجة قوية لكي يتم اعتبارهم من العراقيين الأصليين: يعتقد أن الطائفة موجودة في بلاد الرافدين حتى من قبل ظهور الإسلام أو حتى المسيحية، إلا أن أعدادها تتقلص الآن.
يقول الشيخ: "قبل عام 2003، كان هناك أكثر من 100 ألف من المندائيين في العراق. حاليا لا يوجد إلا أقل من 10 آلاف. لم يعد الوضع يحتمل".
يقول المندائيون إنهم مضطهدون بسبب معتقدات يعتبرها كثيرون من باب الزندقة أو الهرطقة. بل إن البعض يتهم المندائيين بممارسة السحر الأسود.
مرتديا الأبيض – في بنطال فضفاض، وقميص وغطاء رأس – يسقط المندائي الباذنجان المقشر الساخن على طبق من الفضة محملا بالسمك من نهر دجلة، وخسة طويلة كاملة، وبصل ربيع مع الأوراق، وأعشاب طازجة، وشرائح طماطم وليمون.
أثناء طي الخضراوات بأصابعه، يوضح أنه لا يقبل أن يأكل أي شيء غير طبيعي – أي يجب أن يكون بدون سكر، أو كافيين، أو أطعمة معالجة أو كحول. كما أن التدخين من المحرمات لديهم أيضا. فوق ذلك، فإن كل ما يتناوله يجب غسله في مياه النهر.
حياة المندائيين ترتبط ارتباطا وثيقا بالأنهار. بعد أن شبع، يقوم الشيخ بعقد عباءة بنية اللون بحبل ويذهب إلى النهر، حيث يغتسل في النهر ثلاث مرات يوميا.
هناك أصوات حركة مرور فيما تصدح الموسيقى من موكب زفاف أسفل النهر. على الضفة المقابلة توجد حديقة مائية، على أن مظاهر الحداثة تتلاشى من حول المظهر الثابت، بسبب المياه المتلاطمة.
ويتساءل بشكل استنكاري: "متى ننتهي في العراق؟ ويجيب: عندما ينتهي نهرا دجلة والفرات".
قد يكون ذلك سؤالا استنكاريا، لكن علبة عصير وحقيبة بلاستيكية عالقة في القصب القريب، تلمحان إلى تهديد ماثل لنهري العراق العظيمين، أي التلوث.
خلال العام الماضي، أدخل عشرات الآلاف إلى المستشفى في البصرة، ثاني أكبر مدن العراق، بسبب التسمم من مياه كانت سامة بسبب مستويات الملح المرتفعة.
وهناك أفواج من السمك النهري تطفو على ظهرها في الفرات، مثل الطاعون الأسود الذي عرفته أوروبا، أو تحدثت عنه بعض من الكتب المقدسة.
أسفل النهر من الشيخ، أراقب محطة الدورة لتوليد الكهرباء، فيما تبعث مداخنها العملاقة السخام إلى السماء.
إن توالي انقطاع التيار الكهربائي يُدخل بغداد باستمرار في الظلام. عند اتباع أعمدة الأسلاك التي تسير خلف محطة توليد الكهرباء، ثم اتباع الكوابل غير الموثوقة التي تصل إلى الأحياء، ستجد شوارع مليئة بأسلاك كهربائية غير قانونية، محبوكة معا حول الأعمدة، للحصول على الخدمة.
إنها شبكة كهرباء الظل في بغداد. في أحد المجمعات السكنية، هناك مجموعة من الأسلاك الكهربائية تلتف حول غرفة صغيرة مليئة بلوح ضخم، وترتبط باثنين من المولدات التي تعمل بالديزل، تنبعث منهما الحياة عندما تنقطع إمدادات الطاقة من شركة الكهرباء الوطنية.
في الغرفة الصغيرة، هناك شاب يبلغ من العمر 23 عاما يسيطر على الطاقة الاحتياطية لـ 300 أسرة.
عندما تنقطع شبكة الكهرباء، يقفز محمد، ويضغط حول الجزء الخلفي من المولدات، بأن يقلب مفتاحا ويعيد إشعال الأضواء للجميع. أحيانا يكون ذلك كل ساعتين.
محمد هو السابع من تسعة أشقاء، وقد ترك المدرسة في الصف الثامن. وليس من المستغرب أن يرغب في الحصول على عمل أفضل.
"هذا خطير. كله كهرباء! ذات مرة تعرضت لصدمة كهربائية عندما كنت ألمس اللوح، وهو ما قذف بي للارتطام بهذا الجدار".
ينتمي محمد الشاب المراهق إلى بغداد الجديدة، وهي مدينة مليئة بالشباب المتواصلين مع بعضهم بعضا، ومع العالم. في الانتظار المتواصل جراء انقطاع الكهرباء، يُمضي كثيرا من الوقت على جهاز الآيفون للتواصل عبر تطبيق إنستجرام وموقعي فيسبوك وفايبر، "للتواصل مع الأحباب".

الأكثر قراءة