لصوص الأدب .. زلة تجب ما قبلها من أمجاد وصنائع

لصوص الأدب .. زلة تجب ما قبلها من أمجاد وصنائع
لصوص الأدب .. زلة تجب ما قبلها من أمجاد وصنائع

بعيدا عن تعقيدات الحياة المعاصرة، عمِل القدماء على تبسيط كل شيء، فوسموا ما قد يحدث في عالم الأدب، من تشابه في الأفكار وحتى في العناوين، بأسماء دالة على جوازه ومشروعيته؛ منها التناص والتطابق وتوارد الأفكار، بذلك يكون مقبولا ومباحا ومشروعا. وبلغ بهم التلطيف مبلغا، تحاشوا معه استعمال عبارة "السرقة الأدبية"، واستعاضوا عنها بمصطلحات أخرى أقل وقعا في الأذن، وتأثيرا على الأنفس، مثل "الأخذ" و"الاستعانة" و"الاستمداد".. وفي ذلك قال الفرزدق: «خير السرقة ما لم تُقطع فيه يد».
على غرار النثر، لم يسلَم الشعر بدوره من هذه الظاهرة، فالشعراء السابقون، كما يرى كثيرون، غلبوا على المعاني الشّعرية، فضاقت السبل أمام الشعراء المحدثين، ولم يكن من الأخذ بُد. يثبِت هذا الرأي القائل، بأن المتقدمين لم يتركوا للمتأخرين شيئا ليطرقوه، ودفاعا عن هذا الطرح يقول أحدهم: "إن السرقة ليست من مساوئ الشعراء، خاصة المتأخرين إذ كان هذا بابا ما تعرى منه متقدم، ولا متأخّر".
بهذا تكون الظاهرة عامة وشاملة لكل مجالات الأدب، وممتدة من حيث النطاق الزمني. فهي لا تقتصر على أمة بعينها أو شعب بذاته، بل ظاهرة إنسانية أشبه ما تكون بالموت لأنها عامة وخاصة؛ فهي عامة من حيث وجودها لدى جميع الأمم، خاصة لأن كل شعب يقوم بها بطريقته الخاصة.
ففي الحضارة العربية، على سبيل المثال، كانت حاضرة على الدوام، وإن بدرجات متفاوتة بين حقبة وأخرى. فالمصادر التاريخية تفيد بأن كل العصور عرفت تأليف مصنفات تتعرض للمسألة بين التحسين والتقبيح، غير أن أغلبها ضائع ومفقود، لأسباب مرتبطة في أغلب الحالات بمن تفضحهم هذه المصنفات من شعراء وأدباء وكتاب؛ حيث يتعمدون سرقتها وإتلافها مخافة الفضح والانكشاف أمام العالمين.
نجد في قائمة هذه المصنفات، كتابا مفقودا لابن بكير المحاربي بعنوان "الخراب واللصوص"، ومصنفا لأبي عثمان الجاحظ عن حيل اللصوص "أخلاق الشطار"، ومؤلفا لأبي الحسن السكري عن "أشعار لصوص العرب"؛ جمع فيه أشعار مشاهير اللصوص من الشعراء كما يصفهم. ومن الكُتاب من اكتفى بتخصيص فصل ضمن أحد مؤلفاته يبُث موقفه فيه من هذا الأمر، على غرار ما فعله ياقوت الحموي في كتابه "معجم البلدان"، أو فصل "في التلصص والتسرق" الذي ورد في كتاب "مجموعة المعاني" للمؤلف المجهول.
يصعب أحيانا الجزم القطعي بتأكيد واقعة السرقة واللصوصية بنفس درجة صعوبة الإقرار بتوارد الأفكار والخواطر في بعض الحالات. كما هو الشأن في التشابه القائم بين رسالة المعري ورسالة ابن شهيد، إذ لا تفصل بين ميلاد أبي العلاء في المعرة بالشام وابن شهيد في قرطبة بالأندلس سوى نحو 20 سنة، في حين توفي توفي المعري عام 449 للهجرة، وتوفي ابن شهيد عام 426، بذلك يكون المعري ولد قبل ابن شهيد وتوفي بعده بنحو 23 سنة. معطيات زمنية إلى جانب أخرى جغرافية لا تُسقط التساؤل عمن قرأ رسالة الآخر؟ وإذا كان الأمر كذلك فمن تراه يكون قد قرأ رسالة الثاني ونسج على غرارها إذن؟ سؤال لا نملك له جوابا، ولا نعلم أحدا أجاب عنه.
ندع الأقدمين جانبا، لإلقاء نظرة على واقع "الاستلهام" أو "السرقة" في العصر الحديث، لنجدها منشرة وذائعة الصيت تحت مبررات واهية من قبيل رغبة أصحابها في "إعادة توزيع المعرفة". وكان هذا لسان حال الكاتب والشاعر الفرنسي جان جينيه أشهر لص في تاريخ الأدب العالمي، أو الأديب المتمرد في عيون البعض، صاحب "يوميات اللص". وكأن حرفة الترجمة وتقنية تبسيط المعارف بتقديم الشروحات والمختصرات لا تفيان بالغرض في نظر هؤلاء وأنصارهم.
يبدو أن "الاستمداد" أو "اللصوصية" باب كل المؤلفين دخلوه، فحتى العمالقة لم يسلموا من هذا الأمر، فرائعة "1984" للروائي البريطاني جورج أورويل؛ التي تحولت مضامينها وعنوانها لمادة اعتمد عليها عديد من الأعمال الروائية والفكرية في العالم، مثل "2084، سعادة خلف العذاب" لجان شارل ديسرتين، وكتاب "الجمهورية الإسلامية في فرنسا، 2084" لباتريك بيتال و"2084، المريخ عالم جديد" لروبرت كايسير... وغيرها، أضحى صاحبها محل اتهام بالسرقة أو الاقتباس بحسب السرديات.
تُفيد الأقاويل بأن "1984" أحد أشهر روايات القرن الـ20 مقتبسة بشكل كبير من عمل روائي للكاتب الروسي الراحل يفجيني زامياتين بعنوان "نحن"، التي تعتبر من نوادر الإنتاج الأدبي الروسي المميز في عصر حرق الكتب، فتاريخ كتابتها يعود إلى عام 1923. وكانت مصدر إلهام واقتباس أو سرقة بشكل جزئي لرواية "عالم جديد شجاع" للروائي البريطاني ألدوس هاكسلي.
العناوين ليست أفضل حالا عن الحبكات والمضامين، فالاقتباسات والأخذ كثير حتى التطابق أحيانا، في الغرب وعند العرب على قدم المساواة، فعلى سبيل المثال تحول عنوان رائعة "الحارس في حقل الشوفان" لعملاق الرواية الأمريكية جيروم ديفيد سالنجر إلى "الحارث في حقل الشوفان" لصاحبها محمد المطرفي. واستعاد الروائي الإسباني أنريكه بيلا ماتاس شخصية "بارتلبي" من رواية "بارتلبي النساخ" (1856) للراحل هدمان ملفل ليضعها عنوانا لروايته "بارتلبي وأصحابه" الصادرة باللغة الإسبانية عام 2001.
بين النحل وتوارد الخواطر ونظرية التأثر والتأثير تسقط قامات أدبية من علياء أبراجها، بعد ملاحقتها بتهمة سرقة عمل أدبي من كاتب مغمور أو مقاطع من أعمال أجنبية بعيدة عن المجال التداولي للقراء، لتجد نفسها في أسفل سافلين بلا مجد بعد افتضاح أمرها، وتتحول زلة واحدة إلى ممسحة تجب ما قبلها من أمجاد وصنائع.
الخشية من هذا المصير المأساوي لأرباب القلم، ممن يصعب عليهم إعادة ترميم الأمجاد بعد سقوطها، اهتدى البعض منهم إلى حيلة الاعتراف، على غرار ما قام به الروائي الكندي يان مارتيل الفائز بجائزة بوليتزر عن عمله الروائي "حياة باي" (2001)، حين أبعد عنه تهمة السرقة بالإعلان المسبق بأنه استلهم حبكة روايته من الكاتب البرازيلي الراحل مواسير سكليار.

الأكثر قراءة