صناعة الشوكولاتة .. سعادة بطعم العبودية

صناعة الشوكولاتة .. سعادة بطعم العبودية
صناعة الشوكولاتة .. سعادة بطعم العبودية

يحرص كثيرون على إنهاء آخر أيام السنة بطبق لذيذ من الشوكولاتة، لعله ينسيهم بعضا من مرارات ما مر بهم من ألم على مدار حول كامل. مع اقتراب أعياد الميلاد يزداد الإقبال على استهلاك الشوكولاتة، إذ أضحى حضورها ضروريا ولافتا في الهدايا والأطباق التي تزين الأماكن والموائد في الاحتفالات برأس السنة الميلادية.
لكن قليلين منهم فقط، من تساءل يوما عن أصل أو تاريخ أو قصة فكرة الشوكولاتة؛ هذه المادة العجيبة التي تحولت إلى صناعة رائجة غزت العالم شرقا وغربا. يبعث تناول منتوجاتها الراحة والسعادة والطمأنينة في النفوس، بعدما تخلص بفضل التطور من احتكار طبقة الأغنياء والنبلاء لها، ليصبح استهلاكها في متناول الجميع.
تعد أمريكا الجنوبية الموطن الأصلي لشجرة الكاكاو المادة الخام للشوكولاتة، وتفيد المراجع التاريخية بأسبقية حضارة الأزيتك في المكسيك إلى صناعة مشروب "الشوكواتيل"؛ أي الماء المر، الذي يصنع من مزيج الماء والكاكاو والفلفل الحار، وكان من المشروبات الروتينية؛ لما بعد وجبة العشاء المذهبة للعقل، لذا كان يمنع تناوله عن النساء والأطفال.
اشتق منه اسم الشوكولاتة Chocolate الذي دخل إلى اللغات الأوروبية عبر اللغة الإسبانية، بعدما تمكن الرحالة كريستوف كولومبوس من جلب حبوب الكاكاو التي لم تحظ في بادئ الأمر بالاهتمام والعناية، إلى حين تقديمها لأول مرة في البلاط الإسباني عام 1544، بعد تعديل مذاق مشروب الشوكولاتة المر بإضافة السكر والعسل إليه.
واصل مشروب الشوكولاتة طريقه من إسبانيا إلى باقي أرجاء أوروبا، وتطلب انتشاره في القارة نحو 100 سنة. قبل أن تأتي الثورة الصناعية التي أنهت طرق الأشغال اليدوية، وعجلت من سرعة إنتاج الشوكولاتة من الحبوب، باستخدام المحركات البخارية. وذلك أوائل القرن الثامن عشر بعد اختراع الفرنسي ديبسون طاحونة شوكولاتة بمحرك بخاري.
بحلول عام 1847 تم اختراع أول شريط شوكولاتة في العالم، ثم تحولت الشوكولاتة تدريجيا إلى منتوج شعبي، بعدما تولت شركات رأسمالية كبرى (كادبوري، نستله...) هذه الصناعة، التي بدأت في التضخم بشكل سريع جدا، حتى بلغت مبيعات سوق الشوكولاتة دوليا في عام 2017، وفقا لبعض التقديرات نحو 100 مليار دولار سنويا.
كان الكاكاو؛ المادة الخام لهذه الصناعة، يتدفق على أوروبا من المستعمرات الإسبانية والبرتغالية في أمريكا اللاتينية. لكن مع ازدياد الطلب على الشوكولاتة، بدأ التفكير أوائل القرن التاسع عشر في زراعة وإنتاج ثمار الكاكاو في مواقع جديدة؛ فكانت المستعمرات الأوروبية في إفريقيا الغربية بديلا جديدا يضمن تزويد مصانع الشركات الكبرى للشوكولاتة في أوروبا.
نجد عند البحث في حبوب الكاكاو المستخدمة في صناعة الشوكولاتة بأنها مقسمة ثلاثة أصناف، أجودها يسمى الكريوللو criollo، ويمثل فقط نحو 5 في المائة من هذه الحبوب في العالم، ما يجعله نادرا وغالي الثمن. ثم الفوراستيرو forastero المنتشر في إفريقيا، ويشكل أساس هذه الصناعة. وأخيرا الترينيتاريو trinitario وهو هيجن طبيعي من النوعين السابقين.
توفر دول غرب إفريقيا، وفق إحصائيات رسمية لمؤسسة الكاكاو العالمية WCF، لمنتجي الشوكولاتة في العالم أكثر من 70 في من إجمالي موارد الشوكولاتة الخام في العالم. حيث تحتل كوت ديفوار الصدارة بإنتاج إجمالي يبلغ نحو 1,5 مليون طن سنويا، متبوعا بكل من غانا ونيجريا والكاميرون في ترتيب لائحة المنتجين الأوائل عالميا.
ارتبط انتشار تجارة الشوكولاتة في أوروبا والإقبال عليها، بتضخم ظاهرة الرق في البلدان المنتجة للكاكاو، فظروف العمل في دول الإنتاج قاسية جدا ولا إنسانية. بذلك تكون هذه الصناعة قائمة على عبودية العمال في أعمال شاقة ومتعبة، لتبقى الشوكولاتة على الدوام ذاك المنتوج الذي يكِد فيه الفقراء والمقهورون ليستهلك الأغبياء والميسورون.
تفيد الأرقام بأن الاستهلاك العالمي للشوكولاتة يزيد على 25,2 مليون طن في السنة، ويأتي السويسريون في قائمة المستهلكين عالميا بمعدل 11,9 كلغ للفرد، متبوعين بالألمان برقم 11,6 كلغ، ثم البريطانيون في المركز الثالث ب 9,7 كلغ في السنة، فيما نصيب الدول الإفريقية مجرد غرامات تضعها في ذيل ترتيب المستهلكين عالميا.
يجهل عشاق الشكولاتة أن تاريخ إنتاج الكاكاو في إفريقيا شكل صفحة من صفحات كتاب العبودية والرق في العصر الحديث، وفصلا من فصول العنصرية ضد السود، التي ظهرت في الملصقات الأوروبية منذ أول علبة شوكولاتة طرحتها شركة كادبوري في السوق عام 1868، فإلى وقت قريب تسمى الحلوى المغطاة بالشوكولاتة NegerKusse "قبلات زنجي".
توالت محاولات كشف أسرار صناعة الشوكولاتة، وفتح الأبواب الموصدة عن "الجانب المظلم من الشوكولاتة" بتعبير الصحافي الدنماركي ميكي مستراتي. فمؤسسة Corpwatch الأمريكية، تتحدث عن 300 ألف طفل يعلمون كعبيد في مزارع الكاكاو في كوت ديفوار. فيما يرتفع الرقم، بحسب دراسة لجامعة تولين الأمريكية، إلى 1,8 مليون طفل متى تمت إضافة غانا.
وقامت الصحافية كارول أوف في شبكة "سي إن إن" بتحقيق ميداني في غرب إفريقيا عام 2006؛ مقتفية أثار الكندي أندري كيفر المختطف منذ 2004 عقب إنجازه لتحقيق يكشف تورط الحكومة الإيفوارية في قضايا فساد متعلقة بزارعة الكاكاو، نشرت نتائجه في كتاب "الشوكولاتة المرة" Bitter Chocolate يظهر المأساة المتعلقة بعمالة الأطفال هناك.
وأنت تستعد لتناول قطعة شوكولاتة أو طبق حلوى طمعا في عمر طويل، كما تخبرنا بذلك بعد الدراسات الحديثة؛ لما تحتوي عليه من عناصر مضادة للأكسدة، أو بحثا عن إكسير الإحساس بالسعادة، لا تذكر أن الكاكاو كانت عملة للمقايضة في النظام المالي لدى شعوب الأزتيك؛ فالديك الرومي مثلا يكلف 100 حبة.
وتذكر أن علية القوم في شعوب المايا تمسح بمشروب الكاكاو رؤوس الأطفال حديثي الولادة لتعمهم البركة، وتزين به قبور الموتى لاعتقادهم بأن مشروبه يشيع البهجة في النفوس في العالم الآخر. وأن في الفلبين تلالا أخاذة غريبة التشكل تسمى التلال الشوكولاتية التي اعتبرت منذ عام 1988 نصبا وطنيا جيولوجيا وثروة قومية في جزيزة بوهول.
وبعيدا عن غرائب الطقوس وعجائب الطبيعة، لا تنسى أن ما بين يديك ما كان له أن يصلك لولا فتية في عمر الزهور، يستعبدون في أعماق القارة السمراء بشكل يومي من الشروق إلى الغروب، كي يتسنى لك الحصول على الشوكولاتة تحتفل بها في هذه المناسبة أو تلك. حقا إنها "شوكولاتة مرة".

الأكثر قراءة