بنات الرياض .. (أبيزودات) غرامية ( 2-2)

بنات الرياض .. (أبيزودات) غرامية ( 2-2)

هؤلاء الرجال، هم سر عذابات ''بنات الرياض'' فرغم أنهم يعيشون بين باريس وسان فرانسيسكو ولندن، ويتسنمون أعلى المناصب الإدارية والدبلوماسية، إلا أن كل واحد منهم يخبئ في داخله مخلوقا تقليديا مهزوما في اعتقاداته. ومن خلال سرد تفاصيل صغيرة تفضح ذهنية الرجل النجدي المأسور بحتمية اجتماعية ساطية، لكنها لا تلتقط ما بعثرته من أشياء الإناث لتقولبهن في صيغة مشابهة، أو لتفسر سر صدمة الرجل في امرأة لا تمتلك من الحب إلا عناوينه، ولقطات الدفء، خصوصا حين يتعلق الأمر بشريحة محكوم عليها بالعيش منفصلة عن أبسط شروط حياة القاع الاجتماعي، فميشيل مثلا لم تستبسل بما يكفي للاقتران بماتي أو حمدان رغم تصريحاتها النارية حول تخلف المجتمع، أما قمرة فتنتهي بطلاق مهين، ولميس تلجأ إلى الحجاب بعد زواجها التلقليدي من نزار، وسديم تلفق كيانها المتعب برجل عادي هو ابن خالتها طارق، فيما يبدو استجابة للحتمية الاجتماعية، وبما يعني أن كل الصراخ الذي امتلأت به الرواية لم يكن أكثر من دلالة على كائنات لفظية، فقدت قدرتها على المجابهة أو نجح المجتمع الأبوي في نمذجتها واستئصال مناعتها.
هكذا تسيّج رجاء الصانع ''بنات الرياض'' في شرنقة لفظية خادعة، إذ تخبئ تحت قشرتها امرأة على درجة من الهشاشة العاطفية والهامشية، فمهما أبدت من الجرأة والمغايرة، تظل نيئة، مشغوفة بنزار قباني المعبأ بكروموسومات الرجولة، مسكونة بإيقاعات عبد المجيد عبدالله، وهو ما يفسر احتقارها للشعر الحديث، وانحصار همومها في روايات عبير، وفساتين باذخة من تصميم ايلي صعب. إنها مخلوق استيهامي تحاول أن تستخرج فارسها من كتب الأبراج لماغي فرح، وتبالغ في الرطانة بلغة إنجليزية تنفيها عن ذاتها، تتبدى دائما معلبة في خلطات مزورة من ''الفاونديشن، والميك أب، والغلوس، والسمكرة، وتقشير البشرة'' كما تم تحشيدها مظهريا وروحيا في ميشيل ذات الجمال النجدي والشخصية الأمريكية، وربما لهذا السبب خذلها فيصل، وتزوج شيخة، ولم يكلف نفسه عناء الدفاع عن حبه لها سوى بالبكاء تحت أقدام أمه، وهو الذي كاد أن يحقق معادلة شبه مستحيلة بإمكانية وجود شاب رومانسي سعودي.
هذا هو أحد مكامن الجرأة في ''بنات الرياض'' أي في الاتكاء على ''تسمية'' الأشياء والحالات والشخوص، ابتداء من التأكيد القصدي على التشابه بين أبطال الرواية وأحداثها والواقع، ولكن ليس في تحريك الحدث الروائي بوعي تحليلي، لأن السرد كما يبدو أقرب إلى ''آلية النسخ'' المباشر من الواقع، والتوصيف البراني منه إلى تحليل المركبات البنائية للشخصيات، فالمجتمع المخملي لا يمكن اختزاله في قاموس من الألفاظ، بل إن تواصله اللالفظي أكثر تعبيرا عن مقوماته، وهو ما حاولته رجاء لتقليب مظاهره وسلوكياته بنمطية سافرة، وبلغة تتماهى إلى حد كبير مع منسوب إحساس تلك الفئة بالحياة، من خلال كتابة عابقة برائحة الوسط الاجتماعي وأخلاقياته، وبإصرارها على إيراد تفاصيل صغيرة أضفت على السرد شيئا من التواتر، وإن لم يبدد ذلك وهم انغلاق تلك العوالم وغموضها، كما يفترضها الوعي البرجوازي بمادة الحياة، وموجبات هتكها عبر اللغة.
ذلك التعريض القصدي بالنخبة الاجتماعية تحاوله رجاء الصانع بسادية لغوية تقوم على استعراض الوقائع بمشهدية أقرب إلى فن الحدوث، بالنيل من الذوات مباشرة، دون اعتناء بتوصيف المكان أو تزمين الحدث حتى، فكل شيء يبدو مجردا رغم وفرة الإشارات الصريحة، ولذلك يفقد السرد طزاجته عندما تحاول أن تستعير من فرويد أدواته ولسانه، لتلصقها بشفتي أم نويّر لتصنيف الفصائل البشرية إلى فئات مطمئنة وأخرى غير مطمئنة، وفئات مفرطة الثقة بذواتها، لتتفرع بعد ذلك بلغة محكية على درجة من التماس بألفاظ الطبقات الشعبية الجازمة لتحصر الرجل المتدين في شريحتين ''صايع وتطوع'' أو ''خاف أن يصيع فتطوع''. وهكذا تستمر في التصنيف حتى تطول المرأة ''المطوعة'' المنحبسة في أسر التربية الصارمة، والحالمة بالتحرر، أو تلك المنتمية لفئة ''النص ونص'' التي تغير حجابها مع تغير فصول السنة، لتضع بنات الرياض وشبابها تحت جاهزية مفرزة نفسية اجتماعية. هكذا تحضر بوعيها وخبرتها وروحها داخل أنسجة النص. وبالتأكيد يمكن فهم إصرارها الواضح على إيراد مفردات شعبية داخل الحوار مثل ''صايع، مدردح، منذ مبطي'' لتعضيد البنية السردية بحوارية تتطابق مع روح الرواية. كما يمكن تبرير توظيفها، النسبي، لمفردات أجنبية لتعزيم اللغة كمكون بنائي مثل ''تو متش ، ماي دير، كوبل، شيزلونج، ليزي بوي، برونزاج، أتراكتف'' فهذا التضمين العضوي هو أحد المكونات البنائية للتأكيد على مواصفات المرأة الأرسطوقراطية، ولكن أن تخترق هذه العبارات السرد بكثافة لتتسيده، وتصبح هي القيمة اللغوية المهيمنة فهذا يعني إصرارها على ''تلهيج السرد'' والتهابط به إلى منسوب لغة استعمالية أقل حتى من المحكي.
ذلك المزيج من الألفاظ المبعثرة هو ما تسميه ''لهجة حجازية مميزة في عرس نجدي'' وقد اعتمدته كأسلوب سردي نتيجة الخفة الشعورية التي طبعت الرواية عموما، وعدم انفصالها كساردة عن موضوعها، أو هكذا أرادت أن تجعل النساء يتكلمن بلغة سافرة ولسان سليط مقلوب، للوصول بالنص إلى ذروة لذته، حيث يتقدم الطارئ اللغوي والسلوكي على الأصل لتفضح ''المجتمع الفاسد اللي يربي أبناءه على الكونترادكشنز والدوبل ستاندردز، التناقضات وازدواجية المعايير مثل ما يقولون'' فمضخة بنات الرياض اللغوية مستمدة من دفتر سديم السماوي، وما يعادلها من الأغاني والتحادث اليومي.
بهذه الفظاظة اللغوية صارت تفسر آخر توبات سديم من إدمانها للحب، من خلال تجربة قاسية جدا، فقدت على إثرها احترامها لجميع الرجال، كما يعلن قرار ميشيل انتصارها على الرجال كافة. إنها مجرد ألفاظ تحمل في داخلها ما ينفيها من المعاني، فبنات الرياض مهزومات في الواقع، مأسورات بذات النظام القامع للحب، الذي نجح في استتابتهن عن أنوثتهن، كما تؤكد مآلاتهن، فهن منتصرات بالجسارة اللفظية فقط، وهكذا تتأكد حتمية التماهي لذوات مهزومة مع النظام البطركي الغالب، داخل حكاية أشبه بالنزوات الغرامية، تحاول أن تحدث تماسها بتعاليات الأدب، ولعل هذا يفسر احتراز رجاء أو خشيتها من ''مغبة تسميتها رواية'' رغم إصرار الناشر على إشهارها كرواية، فهي برأيها ''مجرد جمع لهذه الإيميلات المكتوبة بعفوية وصدق. إنها مجرد تأريخ لجنون فتاة في بداية العشرينات، ولن أقبل إخضاعها لقيود العمل الروائي الرزين أو إلباسها ثوبا يبديها أكبر مما هي عليه!''
[email protected]

الأكثر قراءة