جنوب شرق آسيا يدخل منطقة الخطر

جنوب شرق آسيا يدخل منطقة الخطر

مثيرة للفتنة ومحفوفة بالمخاطر؛ هذه هي حال جنوب شرق آسيا، كما يشير إليها عنوان كتاب مايكل فاتيكويتيس "الدم والحرير". كذلك هذه المنطقة التي يقطنها 600 مليون نسمة، التي تواجه تحدي الصين الآخذة في الصعود والولايات المتحدة الآخذة في التراجع، تظل منطقة ذات أهمية كبيرة بالنسبة لبقية العالم. كانت تايلاند هي البلد الذي اندلعت فيه الأزمة المالية الآسيوية مع انهيار قيمة عملتها "البات" في تموز (يوليو) قبل 20 عاما. ومن خلال مضيق ملقا يرسل العالم سنويا ما يقارب ستة آلاف مليار دولار من تجارته وربع كمية النفط المنقول بحرا.
توقعت نوعا ما أن فاتيكيوتس شخص متفائل. لاحظ أن جنوب شرق آسيا يحتضن عشرة اقتصادات مزدهرة بشكل متزايد فاقت بشكل جماعي تقريبا مكافئاتها في فترة ما بعد الاستعمار في إفريقيا منذ الستينيات، حتى مع وجود بلدان متراجعة مثل ميانمار ولاوس اللتين بدأتا أخيرا اللحاق بالركب. وتعرف الدول ذات الأغلبية المسلمة إندونيسيا وماليزيا بتسامحهما ووجود ثقافة توحيد عملت على استيعاب التأثيرات القادمة من الديانات الهندوسية والبوذية والمسيحية والكونفوشية.
مع ذلك، يقدم فاتيكيوتس تقييما قاتما لآفاق جنوب شرق آسيا. كما يتحدث حول العدد الكبير من اللغات الموجودة في المنطقة، وبعد الدراسة والعمل والسفر في المنطقة صحافيا ووسيط سلام (بين المتمردين والحكومات) لفترة تزيد على ثلاثة عقود، يبني حجة قوية تدعم الاستنتاجات القاتمة التي توصل إليها.
المشكلة لا تكمن في أن المؤلف غير مدرك لما هو جيد في جنوب شرق آسيا - بما في ذلك الإحسان إلى الغرباء، وروح الفكاهة، والشمولية، والمرونة - بل تكمن في أنه يرى أن تلك السمات يجري حجبها من خلال مزيج من الطراز القديم من الطغيان والتأثيرات الجديدة المشؤومة القادمة من الخارج.
في البلدان التي وصلت إليها الديمقراطية - كما حصل في كمبوديا تحت رعاية الأمم المتحدة في عام 1993 - تعرضت في كثير من الحالات وبشكل سريع للتخريب أو التدمير. هان سين، قائد سابق في حركة الخمير الحمر المدعومة الآن من قبل الصين، يتولى حكم كمبوديا، مع فترة انقطاع قصيرة فقط، منذ ما يقارب أربعة عقود، ومثل أحد ملوك الخمير القدماء، لديه حاشية مكونة من مئات الوزراء ووزراء الدولة وحرس رئاسي يتألف من خمسة آلاف شخص. في العام الماضي أمر مواطنيه بالإشارة إليه باسم "رئيس الوزراء الأعلى المجيد والقائد الأعلى".
يكتب فاتيكيوتس أن الكثير من أصدقائه القاطنين في جنوب شرق آسيا ينظرون إلى المستقبل بتخوف. "ألاحظ أن هناك تباينا واضحا بين سكان المنطقة الغربية (البوليانا) المتلهفين جدا لنيل النمو والتطور في المنطقة، متنبئين لها بمستقبل مجيد، وسكان جنوب شرق آسيا القلقين، أغنياء وفقراء، الذين تسكن بداخلهم مخاوف من وقوع كارثة".
تلك كلمات قوية، لكن الموجات المتعاقبة من التفاؤل الديمقراطي التي أعقبت أول عملية إنهاء للاستعمار، ومن ثم الإطاحة بالقادة الدكتاتوريين في بلدان مثل الفلبين وإندونيسيا أفسحت المجال بلا شك لتموجات من القلق بشأن المستقبل.
يحدد فاتيكيوتس ثلاثة أسباب رئيسة وراء تشاؤمه وتشاؤم محاوريه. أولا، عدم المساواة وأنانية النخب السياسية التجارية التي استفادت بشكل غير متناسب من النمو الاقتصادي، سواء قبل الأزمة المالية التي تعرضت لها آسيا أو بعدها. تماما مثلما أن الشعبوية تتغذى من الاستياء الذي كان سببه عدم المساواة والتفاوت في أمريكا ترمب، وبريطانيا الراغبة في الخروج من الاتحاد الأوروبي، وفي حكم القلة والخاصة في هونج كونج، لذلك فإن ما نسبته 40 في المائة من الشعب الإندونيسي المجتمع حول خط الفقر، بدخل يبلغ دولارين يوميا، يصبحون فريسة سهلة للديماغوجيين. صحيح أيضا أن الازدهار عمل على تضخيم صفوف الفئة المتوسطة في آسيا، إلا أن هذه الفئة البرجوازية الطامحة والمثقفة بشكل متزايد تخضع لسيطرة المجموعة نفسها من القادة المستبدين وزمرة من مساعديهم الطغاة. يكتب المؤلف: "هذه ليست مفارقة مستدامة". يبدو الأمر وكأنه وصفة لإحداث ثورة.
السبب الثاني هو تراجع التسامح وارتفاع السياسة المرتبطة بالهوية، سواء أكانت القضية مرتبطة بالدين أو العرق. يستشهد فاتيكيوتس بأرقام تبين أن 1.6 مليون مواطن آسيوي لقوا مصرعهم في صراعات "وطنية داخلية" (بعبارة أخرى، في حروب داخل الدول وليس فيما بينها) منذ عام 1947، ومزيد منهم ماتوا في صراعات أخرى مشابهة في آسيا في العقد المنتهي في عام 2008 أكثر مما ماتوا في جميع الصراعات الأخرى التي حصلت في أماكن أخرى في العالم مجتمعة.
أما بالنسبة للدين، فإن النفوذ والتأثير المتزايد للتفسيرات المتطرفة على مدى الأعوام الـ 30 الماضية يبدوان واضحين بشكل كبير في أنظمة اللباس والتدين اللذين يتميز بهما المسلمون الذين يشكلون 40 في المائة من سكان المنطقة.
التطرف والتعصب البوذي أيضا آخذ في الازدياد. مثل المسيحيين في الشرق الأوسط، تفر الأقليات الدينية من الاضطهاد في بلدانها الأصلية وتلتمس اللجوء مع أناس من دينها. مثلا، يتوجه مسلمو الروهينجا في ميانمار إلى بنجلادش وماليزيا.
أخيرا، هناك تلك القوى الخارجية: ظهور الصين بوصفها أحدث قوة عظمى إمبريالية لا تتأثر باحتياجات أو رغبات ما تعتبر دولا تابعة لها.
كتاب "الدم والحرير" ليس فقط تحليلا سياسيا اجتماعيا جافا. فقد أورد فاتيكيوتس بعض التفاصيل الملتوية، سواء أكانت ولي العهد التايلاندي المحبوب الذي تم تكليفه كضابط في سلاح الجو ويرتدي زيه الرسمي، أو الانفصالي المسلم المعتد بذاته من جنوبي تايلاند، الذي صلى مع أسامة بن لادن في الخرطوم، لكنه وجد أن طريقة ذلك العقل المدبر للإرهاب أمر غير ملهم وغير مثير للإعجاب.
لكن في النهاية الآفاق خطيرة وتنذر بتهديدات. تتعرض إندونيسيا لخطر "ذلك النوع من النزاع الطائفي العرقي والديني الذي نشهده في الشرق الأوسط هذه الأيام". يشعر الشعب الإندونيسي بالإحباط بسبب "التفكك البطيء في الاتفاق متعدد الأعراق". في تايلاند، هناك "احتمال ضئيل لتخلي الجيش عن السلطة بطيب خاطر". لا تزال الفلبين "سجينة لحكم الأقلية". حتى أن أونج سان سو كي في ميانمار خيبت آمال أنصارها الليبراليين. يحدونا الأمل بأن يكون فاتيكيوتس مخطئا، لكنني أخشى أنه ليس كذلك.

الأكثر قراءة