الاقتصاد والديستوبيا وتجاوز رفع الفائدة

أن يحتاط الإنسان فهذا شأن طبيعي، بيد أن العيش تحت مظلة الخوف والخشية مما يخبئه ليس المستقبل بل الحاضر أيضا، فهذا لعمري أمر جلل وخطير. ولماذا نخاف ونحن نعيش في السويد؟ ألم يكن البلد، وإلى وقت قريب، محط أنظار الدنيا، لرغد العيش والأمن المستدام والواحة الأمنية التي يستقتل اللاجئون من شتى بقاع العالم للوصول إليها؟ ليس السويد فحسب. لن أغالي إن قلت إن الخوف مستشر في أوصال عالمنا، الذي في نظري يدخل في حقبة تاريخية قد يحق لنا تشبيهها بـ"الديستوبيا". و"الديستوبيا" هي ضد "يوتوبيا". والمصطلحان يشيران إلى عالمين خياليين.
 العالم اليوتوبي عالم طوباوي، أي خيالي، يتمتع فيه أفراد المجتمع بما يرقى إلى الكمال في كل مضامير الحياة، وفي مقدمتها يأتي الاقتصاد وأسلوب الحكم وتحقيق العدالة. لا مجال للخوف والظلم فيه على الإطلاق. والعالم الديستوبي أيضا عالم خيالي، لكنه يعاكس العالم الطوباوي تماما. في العالم الديستوبي يعيش المجتمع تحت نير الظلم والخوف والفقر والحرمان الاقتصادي وفقدان العدالة والخديعة والتضليل.
 هناك جنس أدبي في هذا المضمار يبدع فيه مشاهير المؤلفين العالميين، لأن الديستوبيا تحولت إلى مفهوم فلسفي ومنهج ينهل منه الباحثون الكثير لتفسير عالمنا المعاصر. ونلحظ الديستوبيا وفي أبشع أوجهها في فرض الإذعان وبالقوة لسردية محددة وفرض الإيمان بها عنوة، وعد الخروج عنها خطيئة تستحق العقاب.
 بعد هذا الشرح الموجز لعالم الخوف "ديستوبيا" أعود إلى كيف أدرك الخوف السويد؟ ليس السويد فحسب، بل عالم اليوم الذي يخضعنا للإذعان لسردية محددة رغم ظلاميتها وبعدها عن تحقيق خردلة من العدالة.
 السردية الديستوبية هذه أفرغت الخوف في قلوب الناس، التي بدلا من مقاومة التيار الديستوبي هذا صارت تجري معه، لأن الفرض من القوة في مكان ما لا يقبل حتى المناقشة. وأنا آخذ السويد مثالا فحسب، لأن العالم الديستوبي الذي كان خياليا أصبح محسوسا في أغلب بقاع العالم ولا سيما المتمدن منه، وإلا كيف يتم طرد أستاذ جامعي فقط لمعارضته الإذعان لما تفرضه السلطات من سردية.
 ألسنا في عالم ديستوبي عندما تفرض علينا السطلة واقعية سرديتها التي تقول إن الجنود الروس بجزمهم الثقيلة سيكتسحون ليس السويد بل أوروبا كلها، وعلينا الخضوع لهذه السردية وتقبل كل الإجراءات لترجمتها على أرض الواقع، رغم الألم الذي تحدثه على المستوى الاقتصادي والمعاشي والنفسي للناس؟ سردية الحرب سردية ديستوبية بامتياز، أمسك بلبابها الساسة وبنوا عليها إجراءاتهم رغم ما تدخله من روع في قلوب الناس وما تسببه من ألم اقتصادي.
وفي آخر حدث ديستوبي في السويد، الذي ما هو إلا نتاج للسردية هذه، عبر كثير من الأطفال السويديين عن خوفهم من الحرب التي ستقع، حسب السردية الديستوبية للساسة، وانهالت الاتصالات بمنظمة تعني بتقديم الدعم النفسي للأطفال لطلب المساعدة. وعلى الناس أن تخضع وتمارس حياتها وتقبل الإجراءات المرافقة لهذه السردية رغم ما تحدثه من ألم. وفي المجتمع الديستوبي، الذي في رأيي لم يعد خياليا في عالم اليوم، يتم تضخيم السرديات المخيفة لإدخال الروع في قلوب الناس. الآن في السويد - وضع عدة خطوط تحت مفردة السويد - يتحدث الناس عن الانفجارات في البلد والاغتيالات، ويطلقون على العام الماضي عام الانفجارات.
 هناك كثير مما يمكن قوله عن دلائل ولوجنا في عالم ديستوبي، لكن علي التوقف التزاما بسقف الكلمات المخصصة لهذا العمود، فقط أضيف أن الناس تعاني كثيرا بقدر قد لا يتصوره البعض من الارتفاعات المفرطة في نسب الفائدة وما تحدثه من ألم أدى بكثير من الناس إلى العيش على الكفاف. لكن كيف لنا وقد أخضعنا أنفسنا خانعين لهذه السردية وأسبابها ومبرراتها؟ الاقتصاد هو السلاح في فرض السرديات الديستوبية لأنه - حسب دراسات اقتصادية رصينة - كان بالإمكان تجاوز رفع نسب الفائدة، وأن نسب التضخم التي ذكرت لتبرير فرضها غير واقعية. ولنا عودة إلى الاقتصاد والديستوبيا في المقبل من الأيام.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي