رحى حرب ثقافية في الجامعات الغربية

الحرب المجنونة والمدمرة وغير الإنسانية التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة أخذت تفرز تبعات خارج نطاق ميدانها وأبعد بكثير عن المنطقة الجغرافية القريبة منها.
لن أقول مزيدا عن الظلم الذي يتعرض له الفلسطينييون ولا عن همجية الجيش الإسرائيلي. أقول وبأمانة فإن اللغة، أي لغة في العالم، ربما لم تجترح حتى الآن مصطلحات تساعدنا على وصف ما تقترفه إسرائيل من جرائم ضد الإنسانية في غزة، كذلك قد لا تساعدنا المعاجم أيضا على تركيب صيغ لغوية لعكس الهوان والتخاذل والجبن الذي يجعل ما يسمى بالمجتمع الدولي يقف متفرجا.
بيد أن كانت الـ100 يوم من حرب إسرائيل قد جعلت من قطعة جغرافية صغيرة يقطنها نحو 2.3 مليون نسمة على مساحة تعد الأكثر كثافة سكانية في العالم غير صالحة للبشر لهول الدمار الذي ألحقته بالحرث والنسل، فإن العواقب لا بد أن ترتد وبالا.
بالطبع، مهما كانت التبعات التي ستعانيها إسرائيل فإنها لن توازي معاناة أهل غزة والفلسطينيين عامة من الذين يئنون تحت نير احتلال بغيض لا يعرف الرحمة وقلع من قلبه جذور البعد الإنساني في التصرف.
ما ينساه الظالم والمستبد والقوي، في أي مكان ومجتمع في يومنا هذا، هو ردات الفعل في عالم أصبح أشبه بقرية صغيرة في إمكاننا اليوم الولوج في أزقتها وزواياها بيسر والفضل في ذلك يعود إلى الأجهزة الخوارزمية التي كلنا تقريبا نحملها معنا.
لهذا لا أظن أن إسرائيل، رغم ما تدعيه من تطور تكنولوجي ومدني وتملك لناصية ما تقول إنه الرشد في الحكم، كانت لها تصورات لما ستؤول إليه الأمور خارج نطاق ساحة المعركة التي تحتل السماء فيها طائراتها، بطيار أو دون طيار، وتكتسح الأرض مجنزراتها ودباباتها وكاسحاتها التي في إمكانها تسوية أحياء بأكملها بالأرض.
من ناحية أرى أن ما تعانيه إسرائيل الآن، وبعد مضي نحو 100 يوم من القتال، ستترتب عليه تبعات ربما لن تطيق هذه الدولة على تحملها.
والاستنتاج هذا ليس من بنات أفكاري، بل استقيته من قراءة معمقة لما يكتبه بعض المتنورين في المجتمع الإسرائيلي في الصحافة الإسرائيلية ذاتها، وأخص بالذكر جريدة "هآرتس"، التي صممت الإدارة اليمينة والمتطرفة التي تقود الحكومة حاليا إيقافها ولكنها تريثت خشية التبعات.
أفرزت حرب إسرائيل على غزة إعادة نظر لكثير من المفاهيم الثقافية في الأروقة الجامعية في الغرب وحتى في داخل أمريكا، الحصن الذي بدونه، وهذا ما يعرفه كل إسرائيلي حق المعرفة، لا تدوم دولتهم وإقامتهم واستيطانهم واحتلالهم أراضي الغير.
حتى في الأسابيع الأولى من الحرب، لم يكن في إمكان المثقفين في الغرب مجرد مناقشة السياق الذي فيه تجري الأحداث الدموية في المنطقة دون توقف ولنحو 70 عقدا. ولم يكن في الإمكان حتى إثارة نقاش بريء من مثل أن الاحتلال الإسرائيلي والممارسات الإسرائيلية العنيفة وأحيانا المتوحشة ضد الفلسطينيين تعد عاملا مؤججا للعنف.
في الآونة الأخيرة، نرى أن كثيرا من المفاهيم التي لم يكن لها بد في السابق إلا التماشي مع النظرة الإسرائيلة حولها، وإن زاغ امرؤ عنها لحقه العقاب، أصبحت مثار نقاش إلى درجة أن صداها وصل حتى الكونجرس الأمريكي.
صحيح أن بعض المسؤولين الكبار برتبة رؤوساء جامعات استقال من منصبه نتيجة الضغط المؤسساتي الهائل، ولكن ذلك لم يقع إلا بعد استجواب مطول وعلى أعلى المستويات كما حدث مع جامعة هارفرد الأمريكية العريقة.
استقالة مسؤول نتيجة ضغط من مناصري إسرائيل من المتنفذين لم يأت لمصلحة إسرائيل، لأن ذلك أجج النقاش على مستوى الجامعات في أمريكا ودول غربية أخرى وجعل مسألة إلقاء اللوم دائما على الفلسطينيين وأن إسرائيل هي الضحية مسألة فيها وجهة نظر، لا بل بدأ كثير من المثقفين والمؤسسات الثقافية النظر إلى إسرائيل كدولة متعدية وأن الفلسطينيين هم ضحايا عنفها المفرط.
أن تنقسم جامعات مؤثرة تتربع على رأس قائمة الجامعات الرصينة في العالم إلى جناحين، جناح يناصر الفلسطينيين بقوة وجناح يناصر إسرائيل وأن تقع مظاهرات في جامعات مثل جامعة هارفرد مؤيدة للفلسطينيين لعمري فإن هذا يعد تطورا ملحوظا في استيعاب العالم الغربي سياق الصراع في الشرق الأوسط وجذوره.
المد الشعبي المؤيد لفلسطين آخذ في الاتساع وبدأ يفرز تفاسير أكثر موضوعية للصراع وللحرب القائمة، وبدأت الجامعات والمراكز الثقافية والعلمية ترى أن هناك فرقا كبيرا بين الصهيونية كحركة سياسية وبين معاداة السامية، وأن كل من ينتقد الحركة الصهيونة أو إسرائيل ليس بالضرورة أن يكون معاديا للسامية.
حرب إسرائيل على غزة غيرت كثيرا من المفاهيم وأفرزت مواقف إيجابية لم نشهدها سابقا في الغرب، لكن السؤال المطروح حاليا يتركز حول إن كانت هذه الحرب ستغير إسرائيل وتنهي استيطانها واحتلالها وحصارها للأراضي الفلسطينية وتترك الفلسطينيين يقررون مصيرهم على أرضهم أم ستزداد عنادا ورعونة وخشونة وعنفا وتطرفا؟

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي