تسخير التكنولوجيا بتقليص الأخطار

أيا كانت التفسيرات والشروحات الخاصة بمستقبل البحث العلمي، فهذا الأخير بات يشكل المحور الأول في النشاط التكنولوجي العالمي الراهن، المستمد من العلوم، وسيكون كذلك إلى ما لا نهاية، لأنه أصبح جزءا أساسيا ومهما من التحولات والاستحقاقات الطبيعية في آن معا. الأسئلة الجدلية في هذه النقطة تتمحور حول نقطتين هما، هل يبني العلم الحديث المتقدم والمتجدد آفاقا جديدة، أم أنه يقود إلى نهاية العالم؟ هذا النوع من التساؤلات لن ينتهي أيضا في العقود المقبلة، خصوصا مع استفحال المواجهات والحروب هنا وهناك، وعدم وجود أي بارقة أمل لوصول العالم إلى قاعدة مشتركة، تضمن الأرضية اللازمة لحلحلة المشكلات العالقة، ولجعل هذا العالم أكثر أمنا وسلاما، فالتوترات حتى "الباردة" تتصاعد عبر أشكال صنعتها الصراعات الجيوسياسية، فضلا عن المواجهات العسكرية الحقيقية الجارية على الساحة.
الجواب الأكثر قربا من الحقيقة، أن الصراعات والمواجهات، وحتى المشكلات المتصاعدة على صعيد الاحتباس الحراري وحماية المناخ عموما، والأزمات الأخرى المحلية والعالمية، لا علاقة لها بنقص البحث العلمي، أو بوتيرة الابتكارات التي أظهرت بالفعل أهمية لا غنى عنها للبشرية جميعا، بل السبب الوحيد وراء المشهد العالمي الراهن بمشكلاته وصراعاته وأزماته، هو غياب الإرادة السياسية. فهذه الإرادة -إن وجدت- كفيلة في حل النزاعات، أو على الأقل قادرة على تخفيف آثارها، وتمهد الطريق إلى الحلول الناجعة لها. ومشكلة غياب الإرادة السياسية استفحلت في الأعوام الماضية، في حين أنها كانت قد وصلت إلى أعلى مستوياته المؤثرة في بعض المراحل السابقة، بما في ذلك عقد التسعينيات من القرن الماضي والعقد الأول من القرن الحالي.
وبعيدا عن هذه الإشكالية، التي يبدو أنها ستكون حاضرة لأعوام عديدة مقبلة، في ظل غياب أي مؤشرات تؤكد عكس ذلك، فإن التكنولوجيا الحديثة تفتح بالفعل آفاقا بعد أخرى من الاكتشافات العلمية المحورية بالنسبة للعالم أجمع. وفي الأعوام القليلة الماضية، أضافت هذه التكنولوجيا أعدادا هائلة من الباحثين الآليين إلى القوى العاملة حول العالم. وبات الذكاء الاصطناعي المحور الأساس في التقدم الذي تشهده كل القطاعات، ولا سيما تلك التي توفر الخدمات المختلفة، فضلا عن قطاعات الإنتاج والتصنيع والزراعة وغير ذلك. فوتيرة العلوم الراهنة تمضي قدما بالفعل، بصرف النظر عن التحفظات التي تطلق هنا وهناك حول الجانب الأخلاقي للذكاء الاصطناعي، لبلوغ أفضل حالة تنظيمية له. وفي كل الأحوال، باتت حركة الإنتاج تعتمد بقوة على الابتكارات الحديثة التي تطرح في الميادين بوتيرة متسارعة وقوية في آن معا.
ولا شك أن التقدم العلمي، والاهتمام الدولي به خصوصا في الدول التي أعددته أساسا لمستقبلها، يوفر فرصا جديدة وأخرى متجددة، وهذا ما يحتاج إليه العالم بالفعل، بعيدا عن المعوقات التي قد تظهر في هذه الساحة أو تلك، أو بفعل هذا الصراع أو ذاك. ومن هنا يمكن القول: إن هذا التقدم الهائل الذي يخدم البشرية لا يمكن أن يقود إلى نهاية العالم كما قد يعتقد البعض، إلا إذا استمر غياب الإرادة السياسية لفترات طويلة وتعمق هذا الغياب. فلا مناص من الارتكاز إلى الابتكارات الحديثة التي لم تضف "عمالا" آليين فقط، بل قيمة للإنتاج ذاته بصرف النظر عن نوعيته، وعن القطاع الآتي منه. ويعتقد لويد ماينور، عميد كلية الطب في جامعة "ستانفورد" الأمريكية، أن الذكاء الاصطناعي يمثل محورا مهما إلى أبعد الحدود في توفير خدمات الرعاية الصحية. فإذا كانت الإنترنت -مثلا- توفر نشر المعلومات، فإن الذكاء الاصطناعي يساعد على استيعاب المعرفة. إنها مسألة تسخير العلم والابتكار والتكنولوجيا المنتجة المتطورة من أجل خدمة الإنسان، دون تجاهل الأخطار التي تجلبها الإدارة السياسية الغائبة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي