Author

ماذا يخبئ لنا عام 2024؟

|
أستاذ جامعي ـ السويد

كثر حديث أو بالأحرى ثرثرة المنجمين حول توقعات عام 2024. وامتلأت صفحات المواقع الإعلامية في الغرب بمقالات تستأنس رأي الباحثين والخبراء عن توقعاتهم لعام 2024. المنجمون لهم مكانة كبيرة في عالم التواصل الاجتماعي، خصوصا في الشرق الأوسط. لقد صار لبعضهم أتباع بمئات الآلاف إن لم يكن بالملايين، وتنجيماتهم تصبح أحيانا حديث الناس.
سأترك المنجمين جانبا، لأنهم يكذبون ولو حدث أن ما تنجموا به صار واقعا، وأسرد باختصار شديد ما اجترته الصحافة العالمية من توقعات، مركزا بالدرجة الأولى على استقراء 2024 استنادا إلى مقاربة مع الأعوام التي سبقته.
ما قرأته من توقعات في الصحافة العالمية لم يعرج على المنطقة العربية خاصة الخليج العربي، حيث يوجد أغلب قراء "الاقتصادية". كانت المقالات في هذا المضمار ذات بعد وطني، أي تتناول أحداث بلدانها، وإن تخللتها إشارات إلى دول أخرى، أتى ذلك بسبب العلاقة المباشرة مع ما يحدث في أوطانها. أغلب التوقعات شملت ميادين التكنولوجيا ولا سيما الذكاء الاصطناعي وما يمكن أن يحدثه من تطور وتغيير في حياة البشر في 2024. لن أسهب في هذا المضمار، ولكن يبدو أن العالم مقبل على قفزات كبيرة في الذكاء الاصطناعي شبيهة بما حدث في الثورة الرقمية.
في الثورة الرقمية digitization صرنا وجها لوجه وفي غضون ربع قرن أو أقل أمام شركات تريليونية "قيمتها السوقية أكثر من تريليون دولار، ومنها من عبر سقف تريليوني دولار". هذه الشركات غيرت حياتنا على عقب في ميادين شتى لم نكن نحلم بها قبل ثلاثة عقود. في الذكاء الاصطناعي artificial intelligence لن نحتاج إلى ربع قرن لتغيير حياتنا. حسب التوقعات، فإننا سنشهد في غضون عام أو عامين بروز شركات تريليونية للذكاء الاصطناعي لن تترك مسلكا إلا وتقتحمه وتغير مساره ربما دون رجعة.
في الإمكان الاسترسال ربما إلى ما لا نهاية في الحديث عن ثورة الذكاء الاصطناعي ليس فقط عما يمكن أن تحدثه في حياتنا بل عن التغيير الذي سيشهده العالم برمته. الآلة أو الماكينة في طريقها إلى اكتساب المعارف ومعالجتها، أي ستكون هي التي تقوم بالمقارنة والاستقراء وبطريقة أفضل بكثير من البشر.
كانت هناك توقعات تخص الأزياء، والمناخ، والمسرح، والفنون، والمال، والرياضة، والسياسة، وغيره، ولكن في نظري غاب الاستقراء في أغلب ما قرأته. والاستقراء هو الاستناد إلى الجزء لاستنتاج ما سيكون عليه الكل. كي أقرب الأمر للقارئ الكريم أقول إن الاستقراء يشبه تحليل نقطة صغيرة من دم الإنسان لمعرفة وضع الإنسان برمته ومن جملتها اللترات الخمسة من الدم التي يحتويها جسمه. لقد غاب الاستقراء في أغلب ما قرأته في الصحافة الغربية عن توقعاتها لعام 2024، بمعنى آخر أنها لم تستفد من تجربة بعض الأحداث التي وقعت في الماضي لدراسة ما يمكن أن نتوقعه في المستقبل.
إن كان الذكاء الاصطناعي ثورة ستغير الكون، وهذا صحيح، فإن التغيير على نطاق واسع قد لا يحتاج إلى ثورة خلاقة مثل هذه. لا أعلم لماذا العالم الغربي دائما ينظر إلى مقاسه لقياس العالم حوله، ولا أعلم لماذا العالم الغربي ينظر إلى الآخر بمنظار تمدنه ورقيه وثوراته التكنولوجية وثرائه وماكينته العسكرية المهولة.
قد تكون لنا آراء مختلفة عن بعض الأحداث التي وقعت في الأعوام الماضية خارج نطاق ما نطلق عليه في العالم الغربي المتمدن، ولكن مداها وتأثيرها وعواقبها والتغيير الذي أحدثته قد يوازي إن لم يفق ما تركته الثورة الرقمية أو ما ستتركه ثورة الذكاء الاصطناعي.
أنت اليوم لا تحتاج إلى شركات تريليونية أو ثورة صناعية أو تكنولوجية جديدة كي تغير العالم. ولا تحتاج إلى آلاف الدبابات والأسلحة الذكية والجيوش الجرارة لتحقق مأربك. وليس بالضرورة أن تكون صاحب مال أو دولة عظمى كي تحدث تغييرا في مجرى التاريخ. من هنا قراءتي لعام 2024 تختلف. أرى أن 2024 سيكون فيه للضعفاء من الذين لا يمتلكون ناصية الذكاء الاصطناعي دور حيوي في تحديد مسار الحياة.
كل الذكاء الاصطناعي الذي تملكه إسرائيل وجيشها الجرار وخلفه دول عظمى تهاوى أمام منظمة فلسطينية في ليلة وضحاها قبل ثلاثة أشهر، وبعد ثلاثة أشهر من المعارك مع هذه المنظمة الضعيفة، ورغم هول وبشاعة المجازر وعشرات الآلاف من القتلى أغلبهم نساء وأطفال وشيوخ وعشرات الآلاف من القنابل الذكية وغير الذكية، لا تزال تقاوم.
قد لا تملك حاملات الطائرات والصواريخ العابرة للقارات والقنابل الدقيقة التي نسبة الخطأ في إطلاقها صوب الهدف قد تكون بالسنتيمترات، لكن لديك الإرادة والصبر والثبات وبعض الأسلحة التقليدية، فبإمكانك أن تغير في مجرى الأحداث. هناك أمثلة كثيرة من عصرنا هذا، استطاع فيه الضعفاء مع إمكاناتهم البسيطة ليس فقط إيقاع الهزيمة بالمتجبرين والأقوياء، لكن أيضا تغيير مجرى التاريخ في مناطقهم.
أرى أن العام المقبل، أو المستقبل عامة، سيحدده أصحاب العزيمة من الصابرين والثابتين والمؤمنين بعدالة قضيتهم، حتى إن كانوا من الضعف في مكان، هؤلاء سيحدثون من التغيير في العالم ما قد تخفق في إحداثه ثورة الذكاء الاصطناعي التي نشهدها.

إنشرها