Author

الذكاء الاصطناعي .. التعددية ودور المرأة

|

أستاذ هندسة الحاسب في كلية علوم الحاسب والمعلومات بجامعة الملك سعود

عندما يكون الحديث عن التعددية في أي موضوع من موضوعات حياة الإنسان المهمة، كموضوع الذكاء الاصطناعي، فإن المقصود المتداول على نطاق واسع هو مدى مشاركة الأفراد على اختلاف صفاتهم في الإسهام في هذا الموضوع علما وعملا وإدارة. وتشمل مثل هذه الصفات الانتماءات الاجتماعية والعرقية والثقافية، كما تتضمن أيضا صفة الجنس الأزلية بين آدم وحواء. وإذا كانت التعددية في معناها الأكثر تداولا تركز على مدى مشاركة الأفراد في الموضوعات المطروحة تبعا لصفاتهم، فإنه لا مانع من تعميم فكرة التعددية لتشمل مدى مشاركة الدول في هذه الموضوعات تبعا لخصائصها المختلفة.
لا شك أن الحضارة الإنسانية التي نشهد آثارها حول العالم لم تأت من مصدر واحد، بل نتجت عن التعددية، فالتاريخ الإنساني حافل بالحضارات شرقا وغربا وشمالا وجنوبا. ثم لا شك أيضا أن التقدم العلمي والتقني الذي نشهده متسارعا اليوم بات يحظى بمشاركة أمم وأعراق مختلفة. صحيح أنه بدأ في دول الغرب مع انطلاق الثورة الصناعية الأولى، إلا أنه يتمتع اليوم بتعددية تزداد اتساعا على مدى العالم بأسره. ولنا أن ننظر في المنتجات التقنية من حولنا لنرى أن لها مصادر مختلفة تحيط في العالم بأسره.
غاية هذا المقال هي طرح التعددية في الذكاء الاصطناعي في جانبيها، أي على كل من مستوى مشاركة الأفراد، ومستوى مشاركة الدول، مع التركيز على مشاركة المرأة مع الرجل في التفاعل مع هذا الموضوع الحيوي المهم. سنعتمد في عرض بعض إحصائيات الموضوع، وبالدرجة الأولى، كما اعتمدنا في إحصائيات موضوعات المقالات السابقة من هذه السلسلة على ما ورد في تقرير "دليل الذكاء الاصطناعي" الصادر عام 2023، عن جامعة ستانفورد.
لعل من المفيد الإشارة هنا إلى أن مشاركة الأفراد أو الدول في موضوع من الموضوعات لا يرتبط فقط بإتاحة فرصة المشاركة للمؤهلين، وإنما يعتمد أيضا على رغبة المؤهل، وعلى تمكينه من المشاركة من خلال تأمين الدعم المالي اللازم لتنفيذها. والحقيقة القائمة في الميدان الأكاديمي، بما في ذلك موضوعات الذكاء الاصطناعي، هي أن التعددية في الإتاحة الأكاديمية قائمة على نطاق واسع في مختلف أنحاء العالم، ودون تمييز، ويبقى الأمر للرغبة والتمكين المادي. فعلى سبيل المثال، قد تختلف بعض الموضوعات في مدى الإقبال عليها بين الرجال والنساء، كما قد تختلف أيضا في أولويات الدعم الذي تقدمه الدول لتمكين المؤهلين من أبنائها.
يقدم تقرير ستانفورد إحصائيات أمريكية حول تعددية دارسي "المستوى المتقدم" في علوم الحاسب في المرحلة الثانوية، ثم حول تعددية دارسي هذه العلوم كتخصص في المراحل الجامعية الثلاث البكالوريوس والماجستير والدكتوراه. تبين هذه الإحصائيات، فيما يخص المرحلة الثانوية أن نحو "43 في المائة" من الدارسين من العرق الأبيض، و"23 في المائة" من العرق الآسيوي، و"6 في المائة" من العرق الأسود، والباقي من الأعراق الأخرى، كما توضح أيضا أن نحو "31 في المائة" من مجمل هؤلاء من الإناث.
تتزايد نسبة العرق الأبيض عبر المراحل الجامعية الثلاث من نحو "47 في المائة" في البكالوريوس إلى نحو "59 في المائة" في الدكتوراه. لكن هذه النسبة تنخفض في حالة العرق الآسيوي من "34 في المائة" في البكالوريوس إلى "29 في المائة" للدكتوراه. ويواكب الانخفاض الأعراق الأخرى أيضا، كما يواكب الانخفاض الأشخاص المعوقين من كل الأعراق، حيث إن نسبتهم في البكالوريوس "4 في المائة"، لكنها في الدكتوراه "1 في المائة" فقط. وبين مجمل هؤلاء تبين إحصائيات تقرير ستانفورد أن نسبة الإناث تتزايد قليلا من نحو "22 في المائة" في البكالوريوس إلى "23 في المائة" في الدكتوراه. ويضاف إلى ذلك أن نسبة أعضاء هيئة التدريس من الإناث في التعليم العالي في مجال علوم الحاسب من النساء تبلغ نحو "24 في المائة".
لعل من المناسب هنا، للمقارنة، أن نقدم إحصائيات حول مشاركة الإناث في إحدى أهم الجامعات السعودية في مجال علوم الحاسب. تقول إحصائيات موقع قسم علوم الحاسب في جامعة الملك سعود: إن نسبة عدد الطالبات إلى مجمل طلاب القسم هي "34 في المائة"، وإن نسبة أعضاء هيئة التدريس من الإناث إلى مجمل الأعضاء هي "38 في المائة". وتجدر الإشارة إلى أن نسبة عدد الطالبات إلى مجمل عدد طلاب الجامعة هي "43 في المائة".
اعتمدت الإحصائيات السابقة على مدى ارتباط النسب بتخصص علوم الحاسب، من منطلق الارتباط الوثيق لهذا التخصص بالذكاء الاصطناعي. لكن هناك أيضا إحصائيات تتضمن تركيزا على موضوع الذكاء الاصطناعي حصرا. مصدر هذه الإحصائيات، كما ورد في تقرير ستانفورد، هو مؤتمر الذكاء الاصطناعي السنوي المعروف بالاسم "مؤتمر وورشة عمل أنظمة معالجة المعلومات العصبية". يرصد هذا المؤتمر مدى حضور الإناث في المؤتمر سنويا منذ 2010. وقد بين عام 2022 أن هذا الحضور تضاعف "13 مرة"، مقارنة بما كان عليه عام 2010، وأنه شمل مشاركات من مختلف أنحاء العالم.
وإذا عدنا إلى موضوع تعددية مشاركة الدول في الذكاء الاصطناعي، لعلنا نتذكر ما ورد في المقال السابق حول الاستراتيجيات والسياسات الخاصة بالذكاء الاصطناعي، حيث ذكر المقال أن هناك خططا وطنية للذكاء الاصطناعي في "64 دولة من دول العالم"، بينها المملكة، وأن هناك "14 دولة أخرى" تعمل على إعداد خططها الوطنية في هذا المجال. ولا شك أن الأمر سيمتد أيضا إلى الدول الأخرى، مع نمو معطيات الذكاء الاصطناعي، وزيادة الوعي بأهمية تطوره، ودوره المستقبلي.
الحقيقة أمامنا اليوم هي أن للعالم بأسره، بشماله وجنوبه، وشرقه وغربه، دورا متزايدا في الذكاء الاصطناعي. صحيح أن علوم هذا الذكاء بدأت في الغرب، لكنها لم تعد تنتمي إلى الغرب وحده، وإنما إلى الإنسانية كلها، إلى كل الأفراد وكل الأعراق والأمم، وإلى كل الإناث والذكور. ولعل هذا الذكاء يتوقع إسهاما إنسانيا من الجميع في تطويره، بل لعله يتطلع أيضا إلى مستقبل يجعله متفوقا على الإنسان ذاته، وربما موجها لشؤونه أو على الأقل مؤثرا فاعلا في ذلك.

إنشرها