Author

البنوك .. هل تتحمل أزمات أخرى؟

|

أدى الانهيار المفاجئ لبنك وادي السيليكون بداية هذا العام كواحد من أكبر الانهيارات المصرفية منذ عقود، إلى انتشار قلق واسع بشأن استقرار النظام المصرفي في الولايات المتحدة، لكن انهيار بنك كريدي سويس، العملاق الأوروبي، أشعل وزاد الأزمة في جميع أنحاء العالم. لقد تسبب انهيار بنك وادي السيليكون في جعل البنوك الأمريكية "أكثر عرضة للخطر" بعد أن خسرت ما مجموعه نحو تريليون دولار من الودائع منذ العام الماضي، كما أن ارتفاع أسعار الفائدة عموما دفع معظم المقرضين الأمريكيين للاحتفاظ بكميات كبيرة من السيولة كتأمين ضد تباطؤ الاقتصاد مع استمرار تدفقات الودائع إلى الخارج وظهور قواعد سيولة أكثر صرامة يمكن أن تؤثر بشكل خاص في البنوك متوسطة الحجم.
كما أن مؤسسات التصنيف العالمية قد خفضت من تصنيف القطاع البنكي، حيث يقول نائب الرئيس الأول في وكالة موديز للتصنيف الائتماني، "هذه استجابة منطقية لتباطؤ الاقتصاد خاصة للسيناريو الذي ترى فيه تدفقات للودائع إلى الخارج وتحتاج إلى الحفاظ على النقد"، فارتفاع أسعار الفائدة لا يزال يشكل خطرا على البنوك، على الرغم من أن ظاهر ذلك هو استفادة البنك من أسعار الفرق بين أسعار الفائدة المرتفعة على المقترضين مع إبقاء أسعار الفائدة منخفضة على الودائع، لكن حقيقة الأمر أن خسائر القروض تتزايد أيضا، حيث يواجه المستهلكون والشركات تكاليف اقتراض أعلى وتباطؤ الاقتصاد يقود إلى فقدان الوظائف وإيرادات الأعمال، كما أن البنوك تستثمر أيضا في السندات وأوراق الدين الأخرى، التي تفقد قيمتها عندما ترتفع أسعار الفائدة، وقد تضطر البنوك إلى بيعها بخسارة إذا واجهت عمليات سحب مفاجئة للودائع أو ضغوط تمويل أخرى، كما حدث مع بنك وادي السيليكون. هذا الوضع قاد صندوق النقد الدولي إلى إجراء اختبار التحمل العالمي على ما يقرب من 900 مقرض في 29 دولة، حيث يوضح الاختبار كيف سيكون أداء المقرضين في ظل السيناريو الأساسي وتبين أن هناك 30 مجموعة مصرفية تشكل مجتمعة نحو 3 في المائة من أصول البنوك العالمية، تمثل مؤسسات ضعيفة، لكن السيناريو يذهب بعيدا مع اختبار حالة حدوث ركود تضخمي حاد - تضخم مرتفع مع انكماش اقتصادي عالمي بنسبة 2 في المائة - مقترنا بأسعار فائدة أعلى من البنك المركزي، فإن الخسائر ستكون أكبر بكثير. وسيرتفع عدد المؤسسات الضعيفة إلى 153 مؤسسة وتمثل أكثر من ثلث أصول البنوك العالمية. وباستثناء الصين، فإن عدد البنوك الضعيفة في الاقتصادات المتقدمة أكبر بكثير من نظيره في الأسواق الناشئة وهذه المجموعة من البنوك الضعيفة تتصف وفقا لتقرير صندوق النقد الدولي بأنها تعاني ارتفاع معدلات التخلف عن سداد القروض، وانخفاض أسعار أوراقها المالية.
ليست التدفقات النقدية هي المشكلة الوحيدة التي تواجه البنوك، بل أدى ظهور شركات التكنولوجيا المالية والمنصات المصرفية الرقمية إلى تعطيل النموذج المصرفي التقليدي. وقد تمكن هؤلاء اللاعبون الجدد من تقديم خدمات مبتكرة بتكلفة أقل، ما يجعل من الصعب على البنوك التقليدية المنافسة. ونتيجة لذلك، كافحت عديد من البنوك للحفاظ على حصتها في السوق واضطرت إلى إعادة تقييم استراتيجياتها، وأدت هذه الظروف - مجتمعة - إلى مشكلات واضحة في قدرات البنوك الاستثمارية وقدرتها على مواجهة التدفقات الخارجة، وكما عانت البنوك الاستثمارية للعام الثاني انخفاض الرسوم مع جفاف إبرام الصفقات والإدراجات العامة، ما جعلها تكافح عن طريق تقليص عدد الموظفين، حيث ألغت البنوك العالمية – وفقا لعدة تقارير - أكثر من 60 ألف وظيفة في 2023، ما يمثل واحدة من أكبر الأعوام من حيث التخفيضات منذ الأزمة المالية العالمية وعكس كثير من عمليات التوظيف مع خروجها من جائحة كوفيد - 19.
وسبق أن تمت الإشارة إلى التحديات التي سيواجهها الاقتصاد العالمي فيما لو فشل الفيدرالي الأمريكي في الوصول إلى حل معادلة الهبوط الناعم، حيث يسعى إلى معالجة معدلات التضخم المرتفعة، مع حفض أسعار الفائدة على نحو لا يعمق الركود الاقتصادي، لكن هذا السيناريو يواجه تحديات كبيرة، فالتضخم لا يزال عنيدا، وقد يصعب العودة بأسعار الفائدة قريبا، ما قد يؤدي إلى سيناريو من فشل الهبوط الناعم وسط ارتفاع التضخم الذي يتطلب من البنوك المركزية رفع أسعار الفائدة أو إبقاء أسعار الفائدة عند مستويات مرتفعة لفترة أطول وهذا يمكن أن يؤثر سلبا في الوضع المالي للبنوك، وستزاد الأمور سوءا فيما لو فرضت متطلبات أكثر صرامة لرأس المال والسيولة على البنوك، كما يقول معظم المحللين وهو ما يجعل البنوك متوسطة الحجم تشعر بالقلق نظرا للتكلفة التي سترتفع لمقابلة هذه المتطلبات، وهو ما يسبب مزيدا من الضغوط في صناعة تواجه تحديات غير مسبوقة، وهذا ما جعل صاحب شركة الخدمات المالية سيلفرماين بارتنرز، في تقرير نشرته صحيفة "الاقتصادية" بأنه لا يوجد استقرار، ولا استثمار، ولا نمو في معظم البنوك - ومن المرجح أن يكون هناك مزيد من تخفيضات الوظائف، تحتاج البنوك إلى مستويات نقدية أعلى للوفاء بالالتزامات مع قيام العملاء بسحب الودائع، ولتعويض المخاطر مثل خسائر القروض، حيث يبقي الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة مرتفعة لتهدئة النمو الاقتصادي والتضخم، ما يزيد - كما أشرنا - من تحديات التصنيف، حيث يقول كبير محللي الائتمان للمؤسسات المالية في ستاندرد آند بورز إن على البنوك أن تتخذ كثيرا من الخطوات لتقليل المخاطر وتعزيز ميزانياتها العمومية، ولهذا يؤكد التقرير أن البنوك تخصص مبالغ ضخمة لتغطية تكاليف تعويضات نهاية الخدمة، ما يدل على أن عشرات الآلاف من الوظائف الإضافية معرضة للخطر. لكن يبقى السؤال بارزا حول هذه الاتجاهات من تخفيض الوظائف، وهل هو اتجاه مؤقت لمواجهة أزمة السيولة والتحديات التنظيمية، أم هو توجه مستدام نظرا للتغيرات العميقة في الصناعة المصرفية مع ظهور شركات التكنولوجيا المالية والمنصات المصرفية الرقمية؟

إنشرها