النزاهة والتشكل الحضاري الزائف

كتبت في مقالات متنوعة عن فلسفة جوستاف لوبون الفرنسي في فلسفة التاريخ وأدهشني قوله، إن التربية هي إدخال الشعور في اللاشعور، معنى ذلك أن تصبح القيم عند المجتمع في اللاشعور، أي: تصبح من الإعدادات الداخلية، ولن يتحقق ذلك بسهولة. فكثير من القيم التي نتحدث عنها مثل النزاهة تكون لدى المجتمعات والأفراد عند مستوى الشعور فقط، أي عند الإجراءات الملموسة فقط، فلا بد من ظهور هذه القيم على الشخص في شكل إثبات التزام الشخص بتصرف أو الامتناع عنه، فالالتزام هنا له مقياس وهذا المقياس مادي، ومن ذلك مثلا توقيع الموظف على وثيقة السرية، ووثيقة عدم تعارض المصالح، ومن النزاهة أيضا، عدم اكتشاف الشخص، فمثلا الطالب نزيه في الامتحان طالما لم يتم اكتشاف الغش، فالإجراءات مفصلية في تحقق القيمة، وهذا أيضا صحيح في قضايا أخرى يمكن التملص من تبعاتها إذا وجد الشخص دعما من قبيلته أو أقربائه، وطالما تم ذلك الدعم فهو نزيه وذو قيم. فالإجراءات كما أشرت محدد تحقق القيمة وهي مرجعها، ولذلك انتشرت ظاهرة الحصول على شهادات الجودة، على أساس أن قيمة الجودة وما تتضمنها، هي إجراءات يتم اتباعها فقط، وهذا ظاهر ومعروف، فالبعض يردد بصوت عال أنه يحاول جهده إلباس منظمته ثوبا يتناسب مع قيمة الجودة أو يضع لها "مساحيق تجميل" يعرف أنها ستزول بمجرد الفوز بالشهادة، كل ذلك من أنواع تمركز القيمة في الشعور فقط. لكن إذا استطاعت القيمة أن تترسب لعمق النفس الإنسانية، حتى تتحرك بشكل قهري لا إرادي نحو تحقيق تلك القيمة ولو لم تكن الإجراءات موجودة، ولو لم تكن المقاييس متوافرة، فإن القيمة تصبح في اللاشعور، وهذا هو الذي يجعل مجتمعا ما يرفض "كمجتمع" قبول شخص ثبت عليه الفساد، ولا يقبل حتى التعايش مع مجرم ثبت له إجرامه، ولأن الإعدادات الداخلية للمجتمع ترفض الفساد في اللاشعور فإنه يصبح مجتمعا طاردا للمفسدين. وعامة، فإن "النزاهة" كقيمة إنسانية عليا، ليست فطرية، بل هي من مفاهيم التعلم، أي إنها تكتسب من البيئة المحيطة بالإنسان.
لم يكن جوستاف لوبون وحده من تحدث عن فلسفة التاريخ فهناك فليسوف آخر هو في نظري من أهم من نظر للحضارة، وهو شبنجلر ذلك الفليسوف الألماني الذي يقسم الحضارات إلى ثلاث مراحل: مرحلة أولية ناشئة، ومرحلة النضج، ومرحلة الموت، والفرق بين المراحل الثلاث هي الروح الحضارية، كما يصف نوعا من الحضارات يسمى التشكل الكاذب. الروح الحضارية هي حجم العمق في الحضارة، وهي الوقود الأساس الذي يحركها ويميزها عن غيرها، وكلما كانت الروح عميقة جدا كانت الحضارة شديدة التأثير طويلة العمر، وهي تنتقل بين المراحل الثلاث بثبات.
الروح الحضارية العميقة هي اللاشعور عند جوستاف لوبون، هي البحر العميق المليء بالقيم بالأفكار والمبادئ، لديها مصادرها التي تمكنها من إنتاج مزيد ومزيد من هذه القيم الفاعلة والتوجيهات الخلاقة، لكن مدى ظهور هذه الروح في الحياة المادية يعتمد على القدرة الإبداعية لدى الشعوب، لذلك تبدأ الحضارات مرحلة النشأة، وهي تكتشف روحها وتبدع في إنتاج "ماديات" ترسم ملامح الروح وتشكلها، ومن ذلك الإجراءات التي نتبعها للتحقق من وجود القيم التي أبدعتها الروح الحضارية، لذلك تظهر الإجراءات في القيمة مثل النزاهة في شكل أوراق أو سلوكيات، أو قواعد عمل، وطالما كانت القيمة مغروسة في اللاشعور وهناك إبداعات متواصلة في وصف القيمة وتغييرات مستمرة في قياسها وتتبعها، فإن الحضارة تنتقل من طور النشأة إلى الشباب، طالما لديها قدرة على اكتشاف النزاهة والإبداع في التعامل معها وإبرازها، هنا تكون الإجراءات مجرد رموز للقيمة، لكن القيمة أشد عمقا، ومع تقدم عمر الحضارة تستنفد كل ما أمكنها استنفاده من رموز القيمة، وتصبح غير قادرة على اكتشاف مزيد، وتصبح رموزا دراسية فقط، وتعاليم مجردة لا يمكن الإضافة عليها أو تعديلها، وهنا تصبح الحضارة في طورها الأخير، ويتحدد عمرها بما تحمله روحها من عمق.
ولربط المفاهيم بعضها بعضا، فإن المجتمعات التي تتركز فيها النزاهة في الإجراءات فقط، دون عمق واتصال حقيقي بين الشعور واللاشعور، فإن مثل هذه المجتمعات تعيش على هامش الحضارة الإنسانية، ولن يكون لها تأثير ولا تاريخ ولا تؤثر فيها حركة التاريخ، وإذا كان الاتصال بين الشعور واللاشعور قويا وفعالا ومنتجا، فإن المجتمع يتشكل حضاريا، وسيكون له أثر بارز في الحضارة الإنسانية، وحجم هذا الأثر يعتمد على مدى عمق اللاشعور فيه، أو عمق الروح، لكن قد يحدث تشكل حضاري زائف كما يسميه شبنجلر، عندما تسود في المجتمع نماذج وإجراءات ورموز من منتجات حضارة أخرى أو في قوالبها، فتظهر إجراءات قيمة مثل النزاهة وتعريفاتها في المجتمع كما لو كانت في اللاشعور، وهذا غير صحيح وغير مستدام، فالمجتمع سيفشل حتما في التعرف على القيمة إذا فقد اتصاله بالرموز "والإجراءات والتعريفات" التي أبدعها غيره، هذه المجتمعات لا تؤثر في التاريخ لكنه يؤثر فيها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي