العام المقبل .. اقتصادان مختلفان

يواجه الاقتصاد العالمي حقائق جديدة تماما، فالجغرافيا السياسية تغير مشهد التجارة، هناك اليوم تبدلات وتكتلات جديدة، مع تنامي الشك في قدرة منظومة التجارة العالمية، التي سادت في نهاية القرن الماضي وأوائل القرن الحالي على البقاء دون القبول بتغيرات عميقة، اليوم يظهر قلق لا يمكن إخفاؤه بشأن حالة التكامل في الاقتصاد العالمي وتزايد انتهاك قواعد التجارة، فالتدخلات التجارية آخذة في الارتفاع، في هيئة سياسات صناعية وإعانات دعم، وقيود على الواردات، استنادا إلى الأمن القومي والمخاوف البيئية، ولقد شهدت الأشهر القليلة الماضية تزايدا واسع النطاق في عقوبات التصدير لضمان العرض المحلي في عديد من الدول مثل الهند وإندونيسيا، كما تتدخل الحكومات في مختلف أنحاء العالم لمساعدة القطاعات المحلية، ويرى تقرير صدر من صندوق النقد الدولي بشأن ظاهرة العودة للسياسات الصناعية أن الشركات في القطاعات المستهدفة -مثل شركات: صناعة السيارات، الطاقة، وتصنيع أشباه الموصلات- قد تشهد تغيرات جذرية في بيئات عملها، ومن الممكن أن "تصنع هذه السياسات تكاليف جديدة أو تقدم حوافز مالية لتحويل استثمارات البحث والتطوير أو التصنيع، لذلك فإن التغيرات في الجغرافيا - السياسية ومشهد التجارة العالمية نحو إعادة التصنيع وأمن الطاقة والعودة للحمائية والدعم ولو بحجج أمنية، كل هذا يعزز التضخم. وهذا يعنى أن التفاؤل بشأن خفض كبير في أسعار الفائدة، لا يزال مبكرا. لكن من ناحية أخرى، فإن قوة الطلب التي تسببت في التضخم كانت نتيجة لتنامي المدخرات في فترة الحجر الصحي، خاصة في الولايات المتحدة، لكن تم استنزافها الآن بعد مضي كل هذه الفترة منذ خروج الاقتصادات العالمية من الأزمة، لذلك ظهرت علامات تباطؤ نمو الوظائف، ما يعني تراجع التضخم، ونموا أضعف قليلا في 2024، وهذا ما تتنبأ به كل المؤسسات الدولية ذات الصلة التي تتوقع أن يكون النمو العالمي للعام المقبل في حدود 2.7 في المائة، وهذه التنبؤات تزيد من احتمالية خفض أسعار الفائدة ولو بشكل تدريجي. هذا يضعنا أمام سؤال عن مسار الاقتصاد العالمي في العام المقبل، ففي تقرير نشرته صحيفة "الاقتصادية" في هذا الشأن يقول الرئيس التنفيذي لبنك جيه بي مورجان: إن البيئة العالمية تعقد عملية صنع سياسات صحيحة.
الكل يضع أمله في مهارة بنك الاحتياطي الفيدرالي عند هندسة ما يسمى "الهبوط الناعم" -وهو تباطؤ الاقتصاد بما يكفي لتهدئة التضخم دون دفعه إلى الركود، وذلك من خلال قيام بنك الاحتياطي الفيدرالي بخفض أسعار الفائدة في 2024. وستتبعه أسعار الفائدة في جميع أنحاء العالم، ما يعزز من صعود الأسهم وتنامي الأسواق، وهذا يقلل بشكل واضح من احتمال حدوث الركود، يأتي التأكيد من سوق الإسكان، كما تشير عديد من التقارير إلى أن أسعار الفائدة على الرهن العقاري التي اقتربت من 8 في المائة في الولايات المتحدة لم يكن لها التأثير المتوقع في أسعار المساكن، لأن كثيرا من المالكين ظلوا ملتزمين بأسعار فائدة أقل على مدى الأعوام الـ15 الماضية، وفي كل فترات الركود منذ الحرب العالمية الثانية كان انهيار سوق الإسكان هو الظاهرة، لكن ليست هذه هي الحال اليوم، كما أن أسعار الفائدة المنخفضة تسهل حصول الشركات في جميع أنحاء العالم على التمويل وممارسة الأعمال التجارية، وهذه أدلة تخفف من احتمالات الركود، لكن مرة أخرى فإن تعقيدات البيئة العالمية تصعب عملية بناء سياسة صحيحة، وهذا يثير الشك بشأن قدرة الفيدرالي على هندسة الهبوط الناعم، والبعض يتصور هبوطا وعرا بدلا من ذلك، فهناك مخاطر سياسية لا يمكن التنبؤ بها تلوح في الأفق الآن، مع احتمال نشوب مزيد من التوترات التجارية والجمركية العام المقبل، ولا تزال المشكلات عالقة بين الولايات المتحدة والصين، وأوروبا والصين، حول أمور مثل الصلب أو المركبات الكهربائية أو التكنولوجيا النظيفة أو المعادن الأرضية النادرة.
في سيناريو الهبوط الناعم، تظل أسواق الأسهم مستقرة، وقد تجد طريقها للصعود، حيث تظل ثقة المستثمرين جيدة، وفي حالة الهبوط الوعر أو الحاد، قد ترتفع معدلات البطالة بشكل حاد، وقد ينخفض الإنفاق الاستهلاكي، وقد تواجه الشركات تحديا، هذه النتيجة يمكن أن تؤدي إلى ركود اقتصادي طويل الأمد أو ركود حاد، وفي الأغلب تتفاعل أسواق الأسهم سلبيا مع الهبوط الحاد، ويتجه المستثمرون على الأصول الأكثر أمانا مثل الذهب أو السندات الحكومية للحفاظ على رأس المال. هناك من يرى حدوث اقتصادين مختلفين خلال العام المقبل، سيكون النصف الأول من 2024 مليئا بالتحديات، وربما يتضمن ركودا خفيفا. أما النصف الثاني فسيكون على العكس من ذلك، مع انتعاش النمو الاقتصادي، واعتدال التضخم، وأخيرا انخفاض أسعار الفائدة، المؤكد هو أننا سنشهد تراجعا واضحا في أسعار الفائدة، ولكن مسار هذا التراجع هو محل الجدل. في هذا المشهد، فإن العامل المحدد لاتجاه أسعار الفائدة في المستقبل المنظور هو اتجاهات الاقتصاد السياسي، إذا تصاعدت الأزمات الدولية، فإن أي تعديل ولو كان بسيطا في معدل الفائدة قد يقود لركود حاد، والعكس صحيح.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي