Author

السندات الأمريكية .. هل تراجعت جاذبيتها؟

|

فيما قبل الأزمة المالية العالمية في 2008 كانت نسبة تملك الجهات الأجنبية من الدين الأمريكي العام تراوح بين 15 و25 في المائة، ثم أخذت في الازدياد لتبلغ قمتها عند 34 في المائة بنهاية 2014، لكن منذ ذلك الوقت بدأت نسبة ملكية الأطراف الأجنبية في الانخفاض، وهي حاليا نحو 24 في المائة. هذا يعني أن هناك تراجعا في شهية الجهات الأجنبية تجاه أدوات الدين الأمريكية التي تتمتع بأعلى درجات الأمان المالي في العالم، والجهات الأجنبية هي عادة البنوك المركزية وصناديق الاستثمار الحكومية وغير الحكومية وغير ذلك من المستثمرين الأفراد حول العالم.
في الأيام الماضية طالب مستشار سابق في البنك المركزي الصيني بتقليل استثمارات الصين تدريجيا في سندات الخزانة الأمريكية والحد من تعرضها للأخطار التي تهدد الدين الأمريكي، مشيرا إلى أن الدين الخارجي للولايات المتحدة وصل إلى 18 تريليون دولار بما يعادل نحو 70 في المائة من إجمالي الناتج المحلي الأمريكي، وأن جاذبية السندات الأمريكية كوعاء استثماري للدول الأخرى تتراجع بسبب استخدام الولايات المتحدة للدولار "كسلاح" في نزاعاتها مع الدول كما حدث مع روسيا، إلى جانب شكوى الشركات الصينية من استخدام الولايات المتحدة العقوبات المالية ضدها.
بحسب مجلس الاحتياطي الفيدرالي قامت أطراف أجنبية استثمارية بالتخلص من سندات أمريكية حكومية بشكل غير مسبوق في مارس 2020 كردة فعل للتأثيرات السلبية المحتملة لأزمة فيروس كورونا في ذلك الوقت، حيث تم بيع سندات بقيمة 417 مليار دولار صافي مبيعات، بعد أخذ ما تم شراؤه في الحسبان، لكن من جهة يمكن تبرير ذلك بأنه تصرف متوقع نتيجة ارتفاع أسعار السندات تماشيا مع خفض معدلات الفائدة، ما يعني أن هذه الجهات باعت بعضا من سنداتها لتحقيق أرباح رأسمالية كبيرة، إضافة إلى احتياجاتها النقدية بسبب الأزمة. وعلى الرغم من أن بعض هذه الأطراف الخارجية عاودت الشراء نهاية 2020، بعد اتضاح الرؤية بشأن تداعيات أزمة كورونا، إلا أن إجمالي تملك الأجانب من أدوات الدين الأمريكية في نقص متواصل.
ووفقا لمنظمة "حقائق أمريكية" التي تدير مركزا للمعلومات أسسه ستيف بالمر الرئيس التنفيذي السابق لشركة مايكروسوفت، هناك خمس دول رئيسة مسؤولة عن امتلاك نحو نصف الدين الأمريكي، ثلاث منها زادت حجم امتلاكها للدين الأمريكي في 2023 مقارنة بـ2013 وهي المملكة المتحدة وبلجيكا ولكسمبورج، وفي المقابل دولتان خفضتا ممتلكاتهما في الفترة ذاتها هما الصين واليابان. أي إنه في الأوقات التي تخفض فيها الصين واليابان من ملكيتهما تقوم دول أوروبية برفع حجم ممتلكاتها من الدين الأمريكي.
وبناء على بيانات وزارة الخزانة الأمريكية، انخفضت ملكية المملكة العربية السعودية من السندات الحكومية الأمريكية إلى أدنى مستوى لها منذ 2016، حيث بلغت قيمتها في أغسطس الماضي 108 مليارات دولار، وقد كانت باعت سندات بمقدار ثلاثة مليارات دولار الصيف الماضي، ومثلها الإمارات التي باعت كذلك الصيف الماضي سندات بمقدار أربعة مليارات دولار. ومن المعروف أن بعض الدول، وبالذات الخليجية منها، تبحث عن عوائد أعلى مما تقدمه السندات الحكومية من خلال استثمارات متعددة تشمل أسهما وأصولا متنوعة داخلية وخارجية، وبذلك فهي تقوم بعمليات موازنة لمحافظها الاستثمارية لتشمل درجات متفاوتة من الأخطار المالية مقابل درجات أعلى من العوائد.
كمثال على تغير شهية شراء الدين الأمريكي، ارتفعت ملكية اليابان من 534 مليار دولار عام 2000 إلى أكثر من 1.5 تريليون دولار في 2014 لتتراجع إلى 1.01 تريليون في 2022، وبالمثل نجد الصين في الفترة ذاتها ارتفعت ملكيتها من 101 مليار دولار في 2000 إلى أكثر من 1.5 تريليون في 2014، وبنهاية 2022 انخفضت ملكيتها إلى نحو 855 مليار دولار. كذلك من الملاحظ هذا العام نقص في مستوى تغطية مزادات السندات التي تطرحها وزارة الخزانة الأمريكية، حيث كانت التغطية تبلغ في المتوسط 2.5 من حجم المعروض، فانخفضت إلى 2.2، بسبب تناقص الطلب من الجهات الأجنبية لشراء السندات الأمريكية، وهي الجهات التي اشترت 75 في المائة من السندات طويلة الأجل المطروحة في يناير، ثم انخفضت نسبة الشراء إلى 65 في المائة في أكتوبر الماضي، وفي مزاد 9 نوفمبر جاءت مشتريات الأجانب فقط 60 في المائة، على الرغم من ارتفاع العائد المقدم من الحكومة بشكل أكبر بكثير من الأعوام السابقة.
من غير الواضح ما ستؤول إليه عمليات التخلص من السندات الحكومية الأمريكية في ظل تنامي الشكوك حول مصير الدولار بوصفها عملة احتياط رئيسة، إضافة إلى اختلال التصنيف الائتماني للولايات المتحدة ووجود فرص تنموية واستثمارية بديلة، وأخيرا إلى تزايد حالات الامتعاض من السياسات الأمريكية التي تتداخل، وأحيانا تتعارض مع السياسات المالية والنقدية لبعض هذه الدول.

إنشرها