الرؤية واحدة والمؤشرات شاهدة

لا تزال رؤية السعودية 2030 تحمل صفات عميقة من المفاهيم الاقتصادية باستخدام أحدث أدوات الإصلاح الاقتصادي، ما جعلها رؤية ملهمة للجميع، ليس فيما حملته من محاور واستراتيجيات ومبادرات، بل ملهمة أيضا في طريقة إداراتها، ومقاييس حوكمتها، ومصداقيتها، وقدرتها على تحقيق مستهدفاتها الضخمة حتى قبل تاريخ استحقاقها، وهذا أمر يستحق الوقوف أمامه كثيرا، فرغم خطط التحول الوطني، التي نشأت في كثير من دول العالم منذ الثمانينيات في القرن الماضي، قليل منها تم تحقيق مستهدفاتها، كما خطط لها، وتعد تجربة خطط التحول الاقتصادي لدول ما بعد الاتحاد السوفياتي، مثل روسيا ودول أوروبا الشرقية، مثالا صارخا للتحديات، التي تواجه خطط التحول بما في ذلك تخصيص القطاعات المملوكة للدولة، وتطوير اقتصادات السوق، والاندماج في الاقتصاد العالمي، وكذلك خطط التحول البيئي مثل خطة تحول الطاقة في ألمانيا والخطة الخمسية الـ13 في الصين، التي تحدد أهدافا طموحة لتنمية الطاقة المتجددة وتحسين كفاءة استخدام الطاقة، وخطط التحول التكنولوجي مثل مبادرة الأمة الذكية في سنغافورة، التي تهدف إلى الاستفادة من التكنولوجيا لتحسين حياة المواطنين، وإنشاء مجتمع أكثر كفاءة واتصالا، فكيف إذا كانت هذه المبادرات جميعا في رؤية واحدة طموحة، ويتم العمل على تحقيق مستهدفاتها في وقت قياسي.
إن هذا الأمر، كما أشرنا، يستحق الوقوف أمامه طويلا لتحليل الممكنات الأساسية للنجاح، فمنذ بدء المرحلة الثانية من مراحل رؤية السعودية 2030 في 2021، التي كانت إحدى أولوياتها توسيع مشاركة القطاع الخاص في شؤون التنمية الاقتصادية وتوفير الممكنات له، مع تمكين قطاعات جديدة، وصنع فرص جاذبة للاستثمار فقد نما الاقتصاد السعودي بوتيرة غير مسبوقة، رغم الظروف والتحديات الاقتصادية المعقدة التي تعيشها دول العالم، إذ حقق اقتصاد المملكة 2022 أعلى معدلات النمو بين دول مجموعة العشرين، وأعلى معدلات نمو وطني منذ 2011، متجاوزا توقعات المنظمات الدولية لنمو اقتصاد المملكة، وهو الآن يقود النمو العالمي جنبا إلى جنب الصين والهند بنمو يزيد على 4 في المائة، مع أقل نسبة تضخم، حيث تراجع التضخم إلى أقل من 2.4 في المائة، إضافة إلى برامجها ومشاريعها ومبادراتها، حرصت على توجيه الدعم وتركيزه على القطاعات التي من شأنها تعزيز مرونة الاقتصاد، وقدرته على المنافسة العالمية، والمساهمة في نقل التقنية وتوطينها وتحفيز الابتكار، وتلبية الطلب المحلي مع زيادة استثمار موقعها اللوجستي المميز وإمكاناتها الفريدة، لتحفيز مرحلة جديدة من التصنيع، وتعزيز التجارة، وجذب الاستثمارات العالمية، مستندة إلى دورها كحلقة وصل رئيسة تعزز كفاءة سلاسل الإمداد العالمية.
أظهرت البيانـات الفعليـة خـلال النصـف الأول مـن 2023 نمـو الناتـج المحلـي الإجمالي الحقيقـي بنسـبة 2.5 في المائة، مقارنـة بالفتـرة المماثلـة مـن العـام الماضـي، مدعومـا بنمـو الأنشطة غيـر النفطيـة بمعـدل 5.4 في المائة، ما يؤكد نمو دور القطـاع الخـاص فـي اقتصاد المملكـة. بينمـا شـهد الناتـج المحلـي للأنشطة النفطيـة انخفاضـا بمعـدل 1.3 في المائة للفتـرة نفسـها، فالاقتصاد غير النفطي، كما وعدت مستهدفات رؤية السعودية 2030 هو الذي يقود الاقتصاد الوطني اليوم بكل جدارة، حيث سـجل نشـاط الخدمـات الجماعيـة والاجتماعيـة والشـخصية ونشـاط النقـل والتخزيـن والاتصالات النمـو الأعلى بمعـدل 13.5 في المائة و9.9 في المائة علـى التوالـي للربـع الثانـي 2023، فيمـا سـجل نشـاط تجـارة الجملـة والتجزئة والمطاعـم والفنـادق نمـوا بمعـدل 7.4 في المائة، يليـه نشـاط الصناعـات التحويليـة -باستثناء تكريـر الزيـت- بمعـدل نمـو 4.3 في المائة، كمـا سـجل نشـاط التشـييد والبنـاء نمـوا بلـغ 2.4 في المائة للفتـرة نفسـها مـن العـام الحالـي، وظهرت مؤشرات الاستثمار الخـاص نمـوا، حيـث سـجل إجمالي تكويـن رأس المال الثابت (غير الحكومي) خلال النصف الأول من 2023 نموا بمعدل 13.2 في المائة، وحقـق الحسـاب الجـاري لميـزان المدفوعـات فائضـا خـلال النصـف الأول مـن 2023 بنحو 117.4 مليـار ريـال، نتيجـة تحقيـق فائض فـي ميـزان السـلع والخدمـات. كل هذه الإنجازات العملاقة هي نتيجة مباشرة لتحقيق مستهدفات "الرؤية"، التي نسبة تحقيقها 75 في المائة، وهي أعلى نسبة لها منذ بدء القياس، رغم أنها لم تزل في مرحلتها الثانية، ما يشير إلى قوة الأداء ودقة التنفيذ، لكن من المهم الإشارة إلى أمر في غاية الأهمية ضمن "الرؤية" وهو الحوكمة، فقد تضمنت "الرؤية" إطارا واضحا للحوكمة يضمن دقة القياس لمستهدفاتها، ويضمن رقابة فعالة لجميع المسارات، وتدخلات في الوقت المناسب، هذه الحوكمة التي تبدأ من مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية برئاسة الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد ورئيس مجلس الوزراء، الذي يجتمع بشكل دوري للاطلاع على التقارير التي تنتجها الجهات المشاركة في تحقيق "الرؤية" وقياس الأداء، ومن ذلك العرض المستمر، الذي تقدمه وزارة الاقتصاد والتخطيط الذي يتضمن مؤشرات الاقتصاد الوطني وقياس الأثر الإيجابي للإنفاق الاستثماري لخطط المشاريع العملاقة ودعم القطاع الخاص، كما يتم عرض تقرير من مكتب الإدارة الاستراتيجية في مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية حيال التقرير الشامل للبرامج على صعيد محاورها الثلاثة كافة (مجتمع حيوي، اقتصاد مزهر، وطن طموح)، الذي أظهر بوضوح في آخر اجتماع للمجلس الأسبوع الماضي ارتفاعا في نسبة المبادرات المكتملة والمؤشرات المتحققة، كما يتم مناقشة المركز الوطني لقياس أداء الأجهزة العامة بشأن أداء الأجهزة العامة بما يشمل تحليلا لأداء الأجهزة العامة وتحقيق مستهدفاتها، إضافة إلى أداء الاستراتيجيات الوطنية، والتطلعات المستقبلية.
وخلاصة الأمر أن هذا الأدوات الناجحة والسليمة في مجملها مع عنصر مهم، وهو القيادة الملهمة، هي التي حققت هذه القفزات النوعية، وهذا النجاح الباهر في مشروع تحول وطني عميق ومتسع. ولعلنا نلاحظ من خلال ذلك تحقق إنجازات ومشاريع شهدتها جميع القطاعات الاقتصادية والتنموية الحيوية وانعكس أثرها على الإيرادات والناتج المحلي واستمرار ثبوت معدلات النمو.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي