نبض صناعات .. وصراعات

يعود تاريخ تضخيم الإشارات الكهربائية إلى فكرة الأنابيب المفرغة، التي اكتشفها توماس إديسون أواخر القرن الـ19 فيما سمي "بتأثير إديسون"، ومهد هذا الاكتشاف الطريق لمزيد من التقدم في تكنولوجيا الأنابيب المفرغة، التي أحدثت ثورة في الاتصالات الهاتفية واللاسلكية لمسافات طويلة، وأدت الأنابيب المفرغة دورا حاسما في التطبيقات العسكرية مثل أنظمة الرادار ومعدات الحرب الإلكترونية، واستمر استخدام الأنابيب المفرغة على نطاق واسع في عديد من الأجهزة الإلكترونية الاستهلاكية، بما في ذلك أجهزة الراديو والتلفزيون وأجهزة الكمبيوتر المبكرة، حتى 1947، عندما نجح علماء في مختبرات بيل، في تطوير أول ترانزستور فعال من مادة شبه موصلة يعمل على تضخيم الإشارات الكهربائية والتحكم فيها بكفاءة أكبر بكثير من الأنابيب المفرغة، ومثل هذا الابتكار حقق نقلة نوعية في مجال الإلكترونيات، حيث صغر حجمها وتحسن استهلاكها للطاقة مع موثوقيته جعلته عنصرا أساسيا في تطوير الأجهزة الإلكترونية الحديثة مثل أجهزة الكمبيوتر المحمولة والهواتف المتنقلة، لكن تأثير الترانزستور كان أبعد بكثير من ذلك، حيث أرسى الأساس لتصغير الأجهزة الإلكترونية وتطوير الدوائر المتكاملة، التي أحدثت ثورة في الإلكترونيات من خلال تعبئة كثير من الترانزستورات في شريحة واحدة، في هذه الصناعة المتقدمة والعريقة جدا تظهر شركة هولندية رائدة عالميا في تطوير وإنتاج آلات الطباعة الحجرية الضوئية المستخدمة في عملية تصنيع أشباه الموصلات وهي شركة ASML التي تصنع الآلات الضرورية لإنتاج الدوائر المتكاملة ICs وتستخدمها كبرى الشركات المصنعة لأشباه الموصلات في جميع أنحاء العالم، وتعد آلات الطباعة الحجرية الضوئية عنصرا حاسما في عملية إنتاج رقائق أصغر حجما وأكثر قوة.
وقد أسست شركة ASML في 1984 مشروعا مشتركا بين شركتي ASMI وPhilips، ويمتد تأثير الشركة إلى ما هو أبعد من عمليات الإنتاج، بل تؤثر تقنيتها بشكل مباشر في قدرات الشركات المصنعة لأشباه الموصلات على مستوى العالم، فقدراتها على الإنتاج وابتكاراتها في تطوير أداء الرقائق، وكفاءة الطاقة، والوظائف العامة وهو المفتاح لتعزيز التقدم في مجالات متنوعة مثل الذكاء الاصطناعي والاتصالات وتكنولوجيا السيارات وغيرها، ولعل آخر التطورات في هذا المجال شريحة المعالج بدقة نانومترين، وذلك لحجمها الصغير كما يوحي الاسم فهي أصغر من نظيراتها الحالية ذات دقة خمسة نانومترات، ما يسمح هذا الحجم الصغير بتجميع مزيد من الترانزستورات في شريحة واحدة، ما يؤدي إلى زيادة الأداء وتعزيز كفاءة الطاقة، فرقائق نانومترين تؤدي إلى استهلاك أقل للطاقة، لكن تطوير رقائق المعالجات بدقة نانومترين تتطلب تقنيات تصنيع متقدمة، مثل الطباعة الحجرية فوق البنفسجية القصوى EUV، التي توفرها الشركة الهولندية اليوم.
إن هذه المقدمة ضرورية جدا لفهم أهمية زيارة الرئيس الكوري الجنوبي يون سوك يول إلى هولندا، والحديث من هناك عن أهمية الرقائق للصناعة والأمن العالمي، حيث أمضى الرئيس الكوري أربعة أيام من أجل تعزيز التعاون بين كوريا الجنوبية، وهي دولة رائدة في تصنيع الرقائق، وهولندا، موطن شركات معدات صناعة الرقائق وقال "إن أشباه الموصلات هي مجال مهم ليس فقط لصناعاتنا، ولكن أيضا لأمننا، خاصة أن الصناعة الإلكترونية لكوريا الجنوبية التي تعتمد على أشباه الموصلات تمثل نحو 60 في المائة من الإمدادات العالمية، ولذلك يحاول ترقية التعاون في أشباه الموصلات بين كوريا الجنوبية وهولندا إلى تحالف أشباه الموصلات، وقد يفهم من عبارة التحالف منع الصين من الوصول إلى التقنيات المتقدمة. لكن أهم ما قال الرئيس الكوري هو حديثه عن إعادة هيكلة سلسلة التوريد في هذه الصناعة، وهنا من المهم الإشارة لتقرير نشرته "الاقتصادية" أخيرا أيضا يؤكد بأن شركة تايوان لتصنيع أشباه الموصلات هي المفضلة لدى المحللين في الحفاظ على تفوقها العالمي في هذا القطاع، وتقع اليوم تحت تهديدات كبيرة من الصين، كما تعرف دول العالم أن نقص الرقائق تسبب في إحداث دمار في عديد من الصناعات، لذلك تبذل الولايات المتحدة جهودا واضحة للاستثمار في صناعة أشباه الموصلات التي يعدها بعضهم "النفط الجديد". وإذا كانت وزيرة التجارة الأمريكية تحث حلفاء الولايات المتحدة، ومنهم كوريا الجنوبية بالطبع، على منع الصين من الحصول على أشباه الموصلات والتكنولوجيات المتقدمة الأساسية للأمن القومي، فإن التحديات والمنافسة في هذه السوق العالمية تتجه لمسارات جديدة تماما، خاصة أن هذه الصناعة حققت ما يزيد على 500 مليار دولار من مبيعات الرقائق العالمية في العام الماضي، ومن المتوقع أن ينمو ذلك أكثر بسبب زيادة الطلب على الرقائق المخصصة لمراكز البيانات التي تعمل على تشغيل خدمات الذكاء الاصطناعي التوليدي.
وكاستجابة لنداءات وزيرة التجارة الأمريكية تعمل شركة "سامسونج للإلكترونيات" الكورية الجنوبية و"إنتل" الأمريكية على التغلب على هيمنة الشركة التايوانية (تي إس إم سي)، وتأمل كل من "سامسونج" و"إنتل" الاستفادة من العملاء المحتملين الذين يتطلعون إلى تقليل اعتمادهم على الشركة التايوانية، سواء لأسباب تجارية أو بسبب القلق بشأن التهديد الصيني المحتمل لتايوان.
في السياق نفسه، قال الرئيس التنفيذي لشركة إيه إم دي الأمريكية لصناعة الرقائق "إنها ستنظر في قدرات تصنيع أخرى إلى جانب تلك التي تقدمها تي إس إم سي، في الوقت الذي تسعى فيه إلى تحقيق مزيد من المرونة"، وهذا التردد الذي أبداه الرئيس التنفيذي لشركة إيه إم دي الأمريكية يوضحه محلل أشباه الموصلات في آسيا في شركة بيرنشتاين، وعن مدى أهمية العامل الجيوسياسي والقلق من تهديدات الصين على تايوان، مقارنة بعوامل مثل التكلفة والكفاءة والجدول الزمني، حيث تظل شركة تي إس إم سي متفوقة في الأمر.
فصناعة الرقائق الإلكترونية، أو أشباه الموصلات على وجه العموم، ليست صناعة استهلاكية في حد ذاتها، بل إنها صناعة وسيطة، تماما كالمواد الخام من معادن وغيرها، لذلك فهي مرتبطة بمئات الصناعات، من الألعاب البسيطة، إلى الطب، وعلوم الفضاء والطيران والسيارات والكمبيوتر والهاتف المحمول ومعظم الأجهزة التي نستخدمها في حياتنا اليوم. ومن هذا المشهد جاءت زيارة الرئيس الكوري لهولندا أملا في الوصول لتحالف يحقق المعادلة الصعبة، ويكسر احتكار تايوان ويضعف تهديدات الصين.
وخلاصة الأمر، فإن الرقائق الإلكترونية تزداد أهمية مع ازدياد الصراع التكنولوجي بين الصين والغرب، فرغم أن تايوان التي تعدها الصين جزءا من أراضيها، فإنها تحولت إلى أهم منتج ومصنع عالمي لتلك الرقائق وأشباه الموصلات. وأكبر الاقتصادات العالمية الباحثة عن مورد موثوق لهذه الرقائق الإلكترونية الاستراتيجية على غرار الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي التي ترى في تايوان المصدر الأهم الذي يعد أكبر مصنع للرقائق الإلكترونية. ولذلك أصبحت هذه الصناعة ذات أهمية قصوى فهي نبض لكثير من الصناعات الاستراتيجية، وبالتالي أصبحت محور صراعات حادة وعنيفة بين كثير من الدول.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي