جمعية الإنترنت .. ودليل صمود الدول

عندما نقول "جمعية الإنترنت" دون أن نضع صفة لهويتها الوطنية، فإن المقصود هو الجمعية الأولى للإنترنت، التي ظهرت في أمريكا، معقل الإنترنت الأول، في الشهر الأخير من 1992، أي بعيد انطلاق الإنترنت. تحمل هذه الجمعية مسؤولية مهمة على مستوى العالم، تتلخص في "رسالتها" المعلنة أمام العالم. ولهذه الرسالة ثلاثة مضامين رئيسة. يشمل المضمون الأول بيانا للتوجهات العامة للجمعية، ويتضمن المضمون الثاني توضيحا لخدمتها لأهداف الإنترنت، ويطرح المضمون الثالث المهمات الرئيسة التي تتولى العمل على تنفيذها. وفيما يلي، عرض لهذه المضامين.
إذا بدأنا بالمضمون الأول فنجد أنه يتضمن التوجه نحو "الارتقاء" بإمكانات الإنترنت المستندة إلى بنية تقنية دولية، التي تمثل مصدرا لإثراء حياة الإنسان، وتطوير حياة المجتمعات نحو الأفضل. وننتقل إلى المضمون الثاني الذي يشير إلى توافق تطلعات الجمعية مع "أهداف الإنترنت" التي تسعى إلى عالم مفتوح على تواصل عالمي يتمتع بالأمان والثقة، ويهتم بالتعاون مع جميع الأطراف التي تسعى إلى مثل ذلك. نأتي إلى المضمون الثالث الذي يحدد ثلاث مهمات رئيسة للجمعية، هي: مناصرة المجتمعات الحريصة على تفعيل عمل الإنترنت، وتطوير بنى الإنترنت والتطبيقات التي تحملها، ووضع المعايير الفنية اللازمة لذلك، والعمل على تحسينها باستمرار، إضافة إلى دعم السياسات المتوافقة مع توجهات الجمعية وأهداف الإنترنت.
لاحظت الجمعية الأثر الفاعل للإنترنت في مواجهة آثار جائحة كورونا، وبدأت 2021 مشروعا لوضع دليل لتقييم صمود الإنترنت، في دول العالم المختلفة، وبيان مكامن القوة في هذا الصمود والعمل على تعزيزها، وإبراز مواطن الضعف والسعي إلى معالجتها. لعل من المناسب هنا التعريف بمعنى "الصمود "، والعودة، في ذلك، إلى ما أوردته منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية في هذا الشأن. يقول تعريف المنظمة التالي: "يتضمن صمود أي نظام تحديد مسببات المشكلات، والعمل على تقوية إمكانات مصادر النظام وحسن إدارتها، من أجل التغلب على ما يمكن أن يطرأ عليه من إجهاد وأخطار وصدمات".
حددت جمعية الإنترنت خمسة شروط تتبعها في اختيارها مؤشرات دليلها لتقييم صمود الإنترنت. وشمل أول هذه الشروط ملاءمة المؤشر المختار متطلبات صمود الإنترنت. وتضمن الشرط الثاني مدى دقة المؤشر على التعبير الكمي عن القياس المطلوب منه. أما الشرط الثالث، فاهتم بمدى انتشار المؤشر عالميا، لكي يمكن استخدامه من أجل دول العالم المختلفة. وركز الشرط الرابع على مدى حداثة بيانات المؤشر المتوافرة دوليا، وحدد لهذه الحداثة مدة لا تتجاوز عامين. ثم اهتم الشرط الخامس بأمر مدى استمرارية قياس هذا المؤشر على المستوى الدولي لضمان طرح الدليل دوريا.
يشمل دليل جمعية الإنترنت الخاص بشؤون صمودها في دول العالم المختلفة أربعة موضوعات رئيسة يعبر عنها بأعمدة الدليل، وتتفرع الأعمدة الأربعة هذه إلى 11 موضوعا فرعيا تدعى أبعاد الدليل، ثم تنقسم هذه الأبعاد إلى "29 قسما" يتمثل كل منها في مؤشر محدد. سنلقي الضوء، في التالي، على هذا التكوين.
يهتم الموضوع الرئيس الأول، أو العمود الأول للدليل، "بالبنية الأساسية"، ويعرف هذا العمود على أنه البنية المادية التي تؤمن وسائل الاتصال لمحتاجيها. وتتضمن هذه البنية ثلاثة أبعاد تشمل منظومة توصيلات الكابلات، ومنظومة التوصيلات اللاسلكية، مثل الطيف الترددي وتغطيتها للاتصالات الجوالة، إضافة إلى البنية الممكنة، أي تلك التي تتضمن بنية الطاقة وبنية قواعد البيانات. ولهذا العمود بأبعاده الثلاثة سبعة مؤشرات لتقييم حالته في الدول المطلوب تقييمها.
يرتبط العمود الثاني للدليل بشؤون "الأداء"، ويعرف على أنه مدى قابلية الشبكة لإعطاء مستخدميها نفاذا سلسا وموثوقا إلى خدمات الإنترنت. ويشمل ذلك بعدين هما بعد شبكة الخدمات الثابتة، وبعد شبكة الخدمات المتنقلة. ولهذا العمود ستة مؤشرات أداء، تتضمن ثلاثة مؤشرات مكررة لكل بعد. وترتبط هذه المؤشرات بمدى التأخير الزمني للبيانات، وكل من سرعة إرسالها، وسرعة استقبالها.
يركز العمود الثالث للدليل على جانب "التقنية الممكنة وحماية الأمن"، ويهتم هذا العمود بمدى قابلية الشبكة لمقاومة التحديات الخبيثة وغير الخبيثة التي تواجهها، عبر استخدام التقنيات الأمنية المناسبة، وتبني أفضل ممارسات الحوكمة. ويشمل هذا العمود أربعة أبعاد رئيسة، وله تسعة مؤشرات. يهتم البعد الأول بالتقنية الممكنة للتواصل عبر الإنترنت وبروتوكولاتها، ويتعلق البعد الثاني بمنظومة أسماء نطاقات الإنترنت. أما البعد الثالث فيرتبط بشؤون أمن توجيه البيانات عبر الشبكة، ثم يختص البعد الرابع بالحماية من المخاطر، ويدخل مدى الالتزام بمتطلبات دليل الأمن السيبراني العالمي، الصادر عن الاتحاد الدولي للاتصالات، ضمن مؤشرات هذا البعد.
أما العمود الرابع والأخير للدليل فينظر في شؤون "جاهزية السوق"، ويتضمن بعدين، وسبعة مؤشرات، ويعرف على أنه مدى قابلية السوق، المرتبط بتمكين استخدام الإنترنت، للتكيف الذاتي ومنح المستخدمين أسعارا مناسبة للاستخدام، وذلك عبر المحافظة على تعددية هذه السوق، والمنافسة المتاحة فيها. ينظر البعد الأول إلى هذا العمود في هيكلية سوق خدمات الإنترنت، وتشمل مؤشراته موضوع القدرة على تحمل التكاليف. أما البعد الثاني، فيركز على حركة البيانات ضمن الدولة المعنية، وتتضمن مؤشراته المحتوى المحلي، وعدد النطاقات المحلية، كما تتضمن أيضا مدى الالتزام بمتطلبات دليل تطور الحكومة الإلكترونية، الصادر عن قسم الشؤون الاقتصادية والاجتماعية التابع للأمم المتحدة.
هكذا تقدم جمعية الإنترنت دليلا لصمودها في دول العالم، يمكن هذه الدول من التعرف على مكامن القوة ومواطن الضعف فيها بشأن هذا الصمود. ينضم هذا الدليل إلى دليل الإنترنت الشامل الصادر عن "وحدة الخبرات في مجموعة الاقتصاد البريطانية "، والمدعم من شركة ميتا، الذي تحدثنا عنه في مقال سابق نشر في 27 يوليو 2023، في التأكيد على ضرورة متابعة شؤون الإنترنت. فقد باتت الإنترنت، الممكنة للعالم السيبراني الذي نعيش، جزءا مهما من حياتنا الاجتماعية والمهنية، ومعلما رئيسا من معالم الحياة المعاصرة. وهو معلم مرشح لمزيد من التطور، خصوصا مع ما يقدمه الذكاء الاصطناعي من منجزات.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي