Author

من أي بلد أنت؟

|
أستاذ جامعي ـ السويد

ربما تكون الجملة الاستفهامية: "من أي بلد أنت؟" من أكثر الجمل تداولا وفي كل اللغات. شخصيا، أتعرض إلى هذا السؤال كثيرا. ولا أعلم لماذا تهتم الناس بأسئلة مثل هذه تريد فيها سبر أغوار الإنسان المقابل بنبش اسم بلده، أو جنسيته، أو التوصل إلى ميوله الشخصية من ثقافة أو دين أو مذهب أو غيره.
وقد درس الفلاسفة رغبة الإنسان في كشف كنه أخيه الإنسان، ليس من خلال أعماله وسلوكه وفضائله أو العكس، بل بالبحث عن انتمائه.
نحن كأناس عاديين نعزو الأمر إلى ميل الفضول لدى الإنسان. طبيعتنا البشرية، حسب رأينا، تحتم علينا الولوج إلى مكامن الإنسان بوساطة مؤشرات مثل الاسم الذي يحمله وما يطلقه الناس من تسميات على الميول التي هو عليها.
بيد أن الفلاسفة وعلى الخصوص علماء تحليل الخطاب لا يتفقون مع هذا التوجه، ويؤكدون أن الاستفسار حتى عن اسم الشخص وبلده وجنسيته يحمل في طياته غايات أبعد بكثير عن مسألة كون الفضول غريزة بشرية.
في اللحظة التي نستفسر فيها عن قومية أو جنسية أو بلد أي إنسان، نكون قد اقترفنا انتهاكا لحقوق الإنسان، حسب ما تعلمنا إياه الفيلسوفة حنا أرنت.
وتذهب بعيدا الفيلسوفة أرنت، التي تفكك لنا لماذا وكيف يقترف البشر الشر أو يتحولون إلى أشرار، حيث ترى في سؤال أغلبنا نراه بريئا، مثل "من أي بلد أنت؟" بداية لما قد يقع من انتهاكات لحقوق الإنسان.
قد يتساءل القارئ الكريم، كيف لأسئلة بريئة مثل هذا أن تكون نذير خرق لحقوق الذي نستفسر منه؟
الجواب الذي يقدمه لنا الفلاسفة أراه منطقيا ومقنعا. لماذا؟ لأن الإنسان يحمل التسميات عبئا أيديولوجيا كبيرا وينطلق في نظرته وموقفه منها مستندا إلى ما يحمله من مواقف ترسخت بمرور الزمن ومن العسر استبدالها.
لهذا تسميات مثل "أمريكي، أفغاني، بريطاني، هندي، صومالي، عراقي، فرنسي، إلى آخره" ليست متساوية القيمة من وجهات نظر متعددة ومنها الإنسانية والحقوقية وغيرها من المعايير.
"أنا أمريكي" ليست ذات قيمة متساوية عند مقارنتها بالقول "أنا صومالي".
نحن البشر لدينا سلم للقيم، لنقل من واحد إلى عشرة، وإن سؤلنا أن نحدد مكانة التسميات في أعلاه لن نضعها في خانة واحدة على الإطلاق. وهذا يسري على الجنسية أو الجواز الذي نحمله.
وإذا كانت تسميات "بريئة" مثل التي ذكرناها مشحونة بالمعاني، فما بالك عن الميول التي نحن عليها. الميول تمثل الثقافات التي نشأنا في كنفها والتي تشكلنا وتشكل نظرتنا إلى العالم حولنا.
ليس من اليسر تغيير الميول، بمعنى أن نرى الميل الذي نحن عليه مساويا في القيمة الإنسانية للميل المختلف للآخر. لا يغرنك ما يقوله الدستور أو القوانين، ولا يغرنك كون البلد الذي تعيش فيه جزءا من عالم الشمال أو عالم الجنوب.
أليست العنصرية مبينة على أن لوني أو جنسي أو ثقافتي أو ديني أو مذهبي أو غيره من الميول أسمى وأرقى مما لدى الآخر؟ أو ليست مواقف مثل هذه السبب وراء كوارث رهيبة في العصر الحديث ومنها المحرقة والفصل العنصري ومعاداة الأجانب المستشرية في العالم اليوم؟
لو تفحصنا كل تسمية على حدة وتعاملنا معها حسب ميولنا ـ وهذا ما نفعله وإن أنكرنا ذلك ـ لرأينا أن الدساتير والقوانين سامية في جعل المساواة هدفا ساميا، ولكن على أرض الواقع الأمر مختلف تماما.
الدساتير والقوانين قد تخفف من المعاناة الناجمة عما تحمله التسميات من قوة سلبية كامنة، ولكنها تخفق في إزالتها. الظاهر قد يومئ أن الشحن الديني أو المذهبي مثلا، الذي أساسه التسمية التي يحملها المرء، قد اختفى.
كلا. اختفاؤة في الظاهر لا يلغي تأثير المضمر الذي قد يكون أكثر خطورة.
المظاهر السطحية للعنصرية قد اختفت في الولايات المتحدة ولكنها لا تزال كامنة تحت السطح وقد يكون تأثيرها السلبي بضراوة تأثيرها عندما كانت طافية على السطح.
هناك اليوم نظرية مهمة ومؤثرة في العلوم الاجتماعية نطلق عليها "نظرية العرق النقدية" التي تبرهن أن الممارسات العنصرية لا تزال قائمة ورغم أنها مضمرة لكن العثور عليها ليس من الصعوبة في مكان.
لا أعلم إن كان القارئ الكريم يتفق مع النظرة الفلسفية التي تقول إن التسميات، حتى تسميات الدول، مشحونة بمدلولات سياسية وأيديولوجية ومواقف ووجهات نظر محددة.
هل إذا يحق لنا أن نسأل: "من أي بلد أنت؟".

إنشرها