Author

مآلات الحرب .. قطب جديد يتشكل

|
أستاذ جامعي ـ السويد

قد يتبادر إلى ذهن القارئ الكريم أن الحرب المدمرة في أوكرانيا قد وضعت أوزارها. والحروب تضع أوزارها بطرائق مختلفة أحيانا لا تخطر على البال. إن ألقينا نظرة سريعة على مآلات الحروب التي خيضت منذ مستهل القرن الـ21 ـ نحو 23 عاما ـ لظهر لنا أن الحروب لها عواقب لم تكن في الحسبان. ولكن قد لا نجافي الحقيقة إن قلنا إن مآلات الحرب في أوكرانيا مختلفة، لأسباب مختلفة.
أولا، أن الحرب هذه، وهي ستدخل يومها الـ583 في الجمعة الذي يصدر فيه مقالنا الأسبوعي، قد أفرزت مآلات، بمعنى أنها قد وضعت أوزارها، في بعض المضامير التي يراها البعض ربما أكثر أهمية من نتائج الحرب على المستوى العسكري.
أظنه يخطئ من يحصر مراقبته للحرب الوطيسة هذه، التي لم تشهد أوروبا مثيلا لها منذ الحرب العالمية الثانية في الأربعينيات من القرن الماضي، في العمليات العسكرية.
الحرب في أوكرانيا لا سابق لها في العصرالحديث من حيث مآلاتها غير العسكرية، وهذا ما يقلق الغرب كثيرا بعد أن وضع كل ثقله العسكري والمادي والسياسي والدبلوماسي خلف أوكرانيا لإلحاق الهزيمة بروسيا.
وأنا أناقش النتائج غير العسكرية هذه لا أقوم بذلك انطلاقا من خيالي أو مواقفي الشخصية من الأحداث. الكاتب الرصين والماهر يبذل مسعاه في كبح جماح ميوله عند الكتابة الصحافية قدر الإمكان.
سأحاول الاتكاء على قرأتي في الصحافة الغربية عند التحدث عن حرب ربما وضعت أوزارها من ناحية تأثيرها ليس ضمن إطار محيطها بل على مستوى الكون، ورحى عجلتها العسكرية الجبارة لا تزال تطحن العساكر والأرض والحرث والنسل.
في مقدمة المآلات تأتي بوادر نظام عالمي جديد لما كان له البروز لولا هذه الحرب المستعرة حتى اللحظة هذه.
أفرزت الحرب في أوكرانيا، لا بل فوضت، وأغلب الظن كنتيجة عرضية غير متوقعة، دول الجنوب "سابقا العام الثالث وأحيانا الثاني" أمر بناء قطب منافس للقطب الواحد الذي كان قبل التدخل الروسي في أوكرانيا يحكم العالم تقريبا دون منازع.
كيف نعرف أن هناك عالما جديدا يتشكل كنتيجة مباشرة لهذه الحرب رغم أن هدير مدافعها يصم الآذان وجحيم حرائقها يدمع العيون؟
يتشكل عالم أو قطب جديد عندما يبرز قادة أو دول تتحدى العالم أو القطب الذي يمسك بزمام الأمور. وهذه المعادلة ترسو على كثير من مناحي الحياة ومنها الثقافات والميول والسياسات السارية على مستوى أقاليم أو مناطق أو دول أو حتى مؤسسات أو مجتمعات وقد تسري على مستوى العائلة الواحدة.
وهذا ما حدث والحرب في بدايتها حيث انبرى عديد من الدول ضمن نطاق عالم الجنوب وهم يتحدون عالم الشمال، الأمر الذي أصاب، ما كان حتى حينه القطب المسيطر لا بل الوحيد "أمريكا وحلفاءها"، على حين غرة وأبدوا دهشتهم وهم يرون عشرات الدول لا تجاريهم في إدانة تدخل روسيا في أوكرانيا.
كان بالنسبة إليهم ما يرقى إلى مصيبة غير متوقعة رفض، ولأول مرة في التاريخ المعاصر، عديد من الدول المؤثرة الوقوف خلف القطب المسيطر في حينه في مسعاه فرض حصار شامل لا سابق له لعزل روسيا.
حاليا هناك 40 دولة تلتزم بالحصار الغربي "العالم الأول أو القطب المسيطر" على روسيا، بيد أن ثلثي العالم من حيث السكان غير ملتزمين بهذا الحصار.
شهدنا اتخاذ قرارات ترقى إلى القرارات المصيرية بالنسبة إلى الاقتصاد العالمي، والغربي منه خصوصا، لم تأت بما تشتهيه سفن الغرب من رياح، منها على سبيل المثال وليس الحصر تحديد سقوف إنتاج النفط دون أخذ رغبات الدول الغربية في الحسبان.
هناك شواهد كثيرة على بروز عالم جديد، بيد أن تيقن الغرب أنه لم يعد الوحيد في الساحة ومن ثم فرض إرادته على الكل لم يعد ممكنا بعد الآن، فتح الباب أمام تشكيل عالم جديد ليس بقوة العالم الذي سيطر على مقادير الدنيا لنحو أربعة عقود، ولكنه محاولة حثيثة وناجحة لتحد ومواجهة، لم يكن في الإمكان القيام بهما قبل اشتعال الحرب الحالية في أوروبا.
كانت قمة مجموعة العشرين في الهند إيذانا أن العالم الجديد بدأ يتشكل، لأن القمة أظهرت أن هناك انقساما جيوسياسيا واضحا حيث تم تبني قرار لم تكن ترغب فيه الدول الغربية حول الحرب في أوكرانيا. اضطر القادة الغربيون إلى الموافقة على قرار فيه ذكر للحرب في أوكرانيا دون ذكر لروسيا التي حسب قاموسهم السياسي هي الدولة المتعدية التي يجب على الكل مقاطعتها وإدانتها.
أقدار ومآلات وعواقب حرب طاحنة لم تضع أوزارها بعد هي التي جعلت الدول الغربية غير الراغبة في اتخاذ قرار مخفف يلبي طموح ممثلي العالم الجديد في قمة العشرين في الهند. إنها الأقدار أو السياسات الفاشلة التي جرت هذه الدول إلى قبول ما لم تكن راغبة فيه معترفة بذلك أنها لم تعد الوحيدة في الميدان.

إنشرها