تلاشي تأثير الحرب في أسعار الأغذية

تصدر منظمة الأغذية والزراعة "الفاو" مؤشرا شهريا لأسعار الأغذية العالمية منذ أكثر من ثلاثة عقود. ويدخل في تركيب المؤشر العام أهم 24 سلعة زراعية متبادلة عالميا، كالقمح والأرز والسكر ولحوم الأبقار والدجاج. توضع سلع المؤشر في خمس مجموعات رئيسة للحبوب، والزيوت النباتية، ومنتجات الألبان، والسكر، واللحوم. ويتم اشتقاق أوزان السلع والمجموعات من إجماليات تبادلاتها التجارية العالمية. وشهدت تبادلات الأغذية العالمية كثيرا من التقلبات السعرية خلال العقود الماضية، ونمت أحجامها بمعدلات تفوق نمو سكان العالم.
استقرت أسعار الأغذية العالمية نسبيا خلال الأعوام القليلة السابقة لأزمة كورونا، ثم ارتفعت أسعارها بعض الشيء عند نهاية 2019، لكنها عاودت الانخفاض حتى بلغ مؤشرها 91.1 في مايو 2020. بعد ذلك بدأت مسيرة صعود أسعارها حتى تجاوز مؤشرها العام 100 عند نهاية 2020. سجل المؤشر العام لاحقا زيادات متوالية حتى بلغت قيمته 135.6 في يناير 2022. هزت الحرب الأوكرانية أسعار الأغذية وقفزت بمؤشرها إلى مستويات قياسية في مارس 2022. بعد ذلك اتجهت أسعار المواد الغذائية الرئيسة بوجه عام إلى الانخفاض.
سجل مؤشر أسعار الأغذية العام في مارس 2022 أكبر زيادة منذ إطلاقه 1990، حيث قفز إلى 159.7. وللحد من أزمة غذاء عالمية عميقة، مارست الدول والمنظمات الدولية والإنسانية ضغوطا على أطراف النزاع للسماح بتصدير الأغذية، ما دفع إلى توقيع اتفاقية تصدير الحبوب الأوكرانية في يوليو 2022. ظهر تأثير الاتفاقية في أسعار الأغذية العالمية حتى قبل سريانها، حيث بدأت مؤشراتها تتراجع في يوليو 2022، وواصلت تراجعاتها في الأشهر التالية حتى وصل مؤشرها العام إلى 122.7 في يونيو 2023. بعد ذلك قفز المؤشر في الشهر التالي إلى 124.0، لكنه عاود الانخفاض أغسطس الماضي إلى 121.4، ليصل إلى أدنى مستوى له منذ 2020. وإجمالا انخفضت أسعار الغذاء العالمية، الشهر الماضي، 24.0 في المائة مقارنة بـأعلى مستوياتها التاريخية المسجلة في مارس 2022. وتقل قيمة المؤشر العام للأغذية في أغسطس 2023 عما كان عليه قبل الحرب الأوكرانية في يناير 2022 بنسبة 10.5 في المائة. وهذا يؤكد تلاشي تأثير الحرب في أسعار الأغذية العالمية.
جاء تراجع أسعار الأغذية العالمية خلال الفترة -التي تلت الحرب الأوكرانية الروسية حتى الشهر الماضي- بشكل رئيس نتيجة لانخفاض أسعار كل المجموعات الغذائية ما عدا السكر. وتراجعت أسعار الحبوب التي تأثرت كثيرا بالحرب الأوكرانية إلى مستويات تقل عن نظيراتها قبل الحرب. ويعود الانخفاض لوفرة المحاصيل في نصف الكرة الأرضية الشمالي. وكان الاستثناء الوحيد من تراجع أسعار الحبوب هو أسعار الأرز التي قفزت الشهر الماضي إلى مستويات هي الأعلى خلال 15 عاما، بسبب حظر الهند تصدير معظم أنواع الأرز. إضافة إلى ذلك، شهدت مجموعة الزيوت النباتية أشد الانخفاضات خلال الفترة الماضية بعد تسجيلها مستويات قياسية إثر نشوب النزاع الروسي الأوكراني. وقد هوت أسعار الزيوت النباتية إلى نحو نصف مستوياتها القياسية قبل عام ونصف.
أسهمت مجموعتا الألبان واللحوم بدرجة أقل في تراجع الأسعار. وانخفضت أسعار الألبان من أعلى مستوياتها خلال الأعوام الماضية والمسجلة في منتصف العام الماضي والبالغة 150.2 إلى 111.3 في أغسطس الماضي، وبنسبة تراجع تقارب 35 في المائة. وجاء الانخفاض نتيجة تراجع أسعار الأعلاف والطاقة. أما أسعار اللحوم فتراجعت في أغسطس 2023 بشكل محدود إلى 114.6 من أعلى مستوياتها المسجلة في الأعوام الأخيرة والبالغة 125.9 في يونيو 2022، وهو ما يعني انخفاضها بنسبة تقارب 9 في المائة خلال الفترة. وجاء الانخفاض بسبب تراجع تكاليف الأعلاف.
أما أسعار السكر العالمية فقد عكست اتجاهات أسعار المجموعات الغذائية خلال العام والنصف الماضي، حيث ارتفعت من 96.2 في مارس 2022 حتى بلغت 157.2 في مايو الماضي، لكنها تراجعت بعض الشيء في الآونة الأخيرة حتى وصلت إلى 148.2 في أغسطس الماضي. وجاءت زيادة الأسعار الأخيرة من تأثيرات توقعات النينو السلبية لإنتاج محاصيل السكر في الهند وتايلاند، وفيضانات البرازيل.
وشهدت الفترة الماضية حتى أغسطس الماضي تراجعا في أسعار النفط والغاز الطبيعي، ما أسهم في خفض تكاليف إنتاج السلع الزراعية والأسمدة. من جانب آخر، تلاشت تأثيرات الحرب الروسية الأوكرانية في المحاصيل الزراعية، خصوصا الحبوب والزيوت النباتية. وجاء هذا بسبب وفرة محاصيل المناطق الأخرى، وكذلك تأقلم الأسواق مع آثار الحرب، وإعادة رسم مسار تجارة السلع الزراعية المتأثرة بالحرب.
التراجع القوي لأسعار الغذاء العالمية الأساسية بشرى سارة للمستهلكين، لكن توابعه الفعلية على الأسعار التي يدفعونها كانت محدودة. ويعود عدم ظهور كامل التراجع في أسعار المواد الأساسية، إلى تأخر أو امتناع المسوقين عن تمرير معظم التراجعات السعرية. وينتج هذا بدوره عن غياب المنافسة الكاملة، وعزوف الأسواق عن خفض الأسعار بنسب تراجع أسعار المواد الأساسية نفسها. ويعود ذلك أيضا إلى تركيبة الأسعار النهائية للمنتجات الغذائية، فمعظم الأسعار النهائية التي يدفعها المستهلك للمنتجات الغذائية لا يعود إلى أسعار السلع الزراعية الأساسية التي يتلقاها المزارعون، ولكن للخدمات والأرباح والمعالجة التي يضيفها الوسطاء والتجار والمصنعون إلى السلع الزراعية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي